12 سبتمبر 2025
تسجيلضمنَ الأَهداف السَّامية لدولة قطر في استضافتها لبطولة كأس العالم هدف "تغيير الصورة النمطية" للعربِ والمسلمينَ عامَّة، وهي صورة شابها التشويه بسبب عدم مصداقية الإِعلام الغربي، وتصويره الشخصية العربية المسلمة بأنها متخلِّفة تفتقدُ أُسس ومعايير (الإِنسان المتحضِّر) التي يُزعمُ حيازة الإِنسان الغربي لها دون غيره!، ويصوِّرها بأَنها شخصية لا تمتلك القدرة والكفاءة لمضاهاة الإِنسان الأُوروبي والأمريكي في المستوى الحضاري الذي وصلَ إليه، لهذا كَتب (صامويل هنتغتون) أُطروحته (صراع الحضارات) عام 1993 التي وصف فيها الإسلام بقوله إنَّ: «حدوده دموية وكذا مناطقه الداخلية»، وقبله كَتب تلميذه فرانسيس فوكوياما مقاله (نهاية التاريخ) في مجلة National Intrest عام 1989، وتلخَّصت أُطْروحَتهُ "أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية" (ويكيبيديا). مثلَ هذه الأُطروحات فيها استنقاصٌ من الإِنسان (غير الغربي)، وهي راسخةٌ في ذهنية الإِنسان الغربي، ولا يجدُ غضاضة أو خجلاً في الكشف عنها، وآخر المفصحين عنها (جوزيب بوريل) مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الذي قال "أوروبا حديقة، لقد بنينا حديقة، أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، لكن بقية العالم ليس حديقة تماما، بقية العالم... أغلب بقية العالم هو أدغال". لقد كان هدف قطر (تغيير الصورة النمطية)، ونُدرك وضوح هذا الهدف في تصريح حسن الذوادي الأمين العام للجنة العليا للمشاريع والإرث خلال حواره في برنامج "للقصة بقية"، على قناة "الجزيرة"، إذ تحدث الذوادي عن الصورة النمطية المغروسة في العالم الغربي حول العرب غير المتحضرين، الذين يملكون إيجابية واحدة هي المال فقط، وكم كان صعبًا الوصول لمرحلة يُدرك فيها المجتمع الغربي أن قطر فازت في منافسة شريفة خاضتها ندًا لند وليس هبة، في ظل استنكار واستهجان واسع لفكرة فوز دولة عربية على دول كبرى؛ مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك على قارة أستراليا. ولا شك أنَّ الصورة النمطية السائدة عن البيئة العربية هي مجرَّد صحراء قاحلة تحفّها الجبال وتكثرُ فيها كثبان الرمل وهي مجرَّدُ خيامٍ وجَمال وحظائر مواشٍ، لكنها تتدفَّقُ نفطاً وغازاً لا يستحقهُ إِنسانها، أمَّا الرَّجل الشرقي فهو جاهلٌ، متخلِّف لا همَّ له سوى الزواج من أكثر من زوجةٍ، وإنجاب ما لا يحصى من الأبناء، وهو رجلٌ يتخذُ من العنفِ أُسلوباً له في الحصول على ما يريد، غيورٌ حدَّ الإفراط، في حين أن المرأة الشرقية فهي في إطار الصورة النمطية لا كيانَ لها ولا قرار سوى أنها تابعة مطواعة للرجل، غير متعلِّمة، لا تُدرك ما يحدثُ في العالم، يغمرها القماشُ الأَسود من رأسها إلى أخمص قدميها..!! هذه الصورة النمطية السائدة في عُمق الذهنية الغربية في العموم بحكم أنَّ الإنسان الغربي متمركزٌ في عوالمه الخاصة تنقصه الكثير من المعلومات حتى عن بلده. لقد أرادت قطر أن تُغيِّر هذه الصورة النمطية السائدة في الغرب عن الوطنِ، والإِنسان، والحياة في بلدٍ عربيٍّ مسلم، وقد تحقق لها ذلك. تدفَّقت الآلاف من الجماهير المشجِّعة للفرق من مختلف قارات وبلدان العالم وهم يحملون صورةً نمطية منقوصةً، وغامضةً، بل ومستخفَّة إلى قطر، حتى إذا وصلوها صدموا بمستويات العيش فيها، والبناءِ العصري الراقي، ووسائل النقل وطرقه المنظمة جداً، والتنظيم عالي المستوى في جميع المجالات فأقرَّ بعض من حضر بطولات سابقة أنَّه لم يشهد مثل هذا المستوى العالي من التنظيم المعتني بأدقِّ التفاصيل، ثم فوجئوا بالإِنسان القطري (العربي المسلم) في أجلِّ قيمه الإنسانية يستضيفُ، ويرحِّبُ، ويُكرمُ، ويعاملُ بالحُسنى، ويعتني بضيوفه عنايةً فائقةً، ثم فوجئوا بالمرأة القطرية، والعربية المسلمة عامة وهي إِنسانةٌ ذات تعليم عالٍ، وثقافة واسعة الاطلاع، وأناقة باذخة، تشاركُ أخاها الرجلُ في التنظيم، وإقامة الفعاليات، وتشتركُ في جميع مفاصل بطولة كأس العالم. لقد أحدث تغيير الصورة النمطية ما يسمى بـ (الصدمة الحضارية cultural shock) لدى الآخر الذي إما كان يحملُ صورة مشوَّهةً، أو صورةً غامضةً عن الإنسان العربي المسلم، حتى غادروا وهم مندهشون ابتداءً من سماحة الإسلام، وكرم الإنسان العربي، وروعة البيئة الخليجية العربية، إلى آخر تفاصيل الدهشة المتمثلة في (الشطَّاف). هُنا كان الدرسُ القطري في أنَّ تغيير الصورة النمطية لا يتمُّ بمجرَّد الكلام، وحشد الكتابات، وصراع الأقلام وإنَّما بالأفعالِ والتعايش والتواصل، وهذا ما أوضحه أمير قطر، حفظه الله، في افتتاح بطولة كأس العالم بقوله: "المهرجان الكروي الكبير في هذا الفضاء المفتوح للتواصل الإنساني والحضاري، سوف يجتمع الناس على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وعقائدهم وتوجهاتهم هنا في قطر". لقد كلَّف هذا الدرس أموالاً باهظةً، لكنَّه خلَّفَ أثراً عظيماً في تغيير الصورة النمطية للإِنسان العربي المسلم سيمتدُّ آماداً بعيدة، وستكونُ له نتائجه الإيجابية الكبيرة.