20 سبتمبر 2025
تسجيلفي كتابه "الساحة والبرج" سلّط الكاتب نيال فيرغسون الضوء على صراع السلطة بين الشبكات، والأنظمة الإعلامية الهرمية، فالتاريخ الإعلامي سطّره في الحقيقة والواقع أباطرة من الرؤساء والوزراء والجنرالات الكبار الذين كانوا يصدرون أوامرهم وتصريحاتهم، فتكون فيصلاً في القضايات المثارة في عصرهم، وما على الجميع حينها إلاّ التنفيذ والتطبيق والعمل بها، مما يستلزم تشكيلها رأياً عاماً، شاء من شاء وأبى من أبى، لكن مع تفجر الثورة الرقمية العالمية تغيّرت الأمور كثيراً، فلم يعد الرئيس ولا رئيس وزرائه، ولا قادة جيشه هم أنفسهم، ودخل عامل جديد على اللعبة الإعلامية، التي من أهم وظائفها تشكيل الرأي العام، وقولبته وصياغته، مما تسبب في خضّات مجتمعية ضخمة، فنجح الوافد الجديد في تحقيق مكاسب، لا يُستهان بها لنفسه وللجمهور من حيث انزياح الاستبداد، وتعاظم الحرية وفضاءاتها. لا شك فإن الثورة الرقمية التي شهدها جيلنا شكّلت علامة فارقة في زعزعة الاستبداد السياسي والفكري والإعلامي، ولكن لا يمنع هذا من بروز فوضى إعلامية ربما صعّبت من القدرة على اتخاذ القرار الصائب في ظل طوفان المعلومات والإشاعات والأخبار، التي يتعذر فرز قمحها عن زوانه. فعلى المستوى العربي أسهمت الشبكات الأفقية في إضعاف بنية الجمهوريات العربية المستبدة، أما على صعيد النخب المثقفة فلم يواكب كثير منها هذه الشبكة وتطوراتها واستخداماتها، مما جعل هذه النخب متخلفة عن تقنيات الإعلام المعاصر، فاستلزم ذلك تأخراً في مخاطبة الشرائح المجتمعية الجديدة، المولعة بالتقنيات الحديثة والمتطورة، وجاء تراجع بعض الصحف الورقية، بل وإغلاق الكثير منها أبوابها ليشكل صدمة حقيقية للكتاب والصحفيين القدماء، وهو ما سدّ أبواب الكتابة أمامهم، وسدّ معه أبواب التأثير في الرأي العام، والتواصل بين هذه النخب والجمهور العام، بعد أن كانت هي نافذة الرأي العام بكل أطيافه وألوانه قبل ظهور الثورة الرقمية على البحث عن العلم والمعرفة. لكن هذه الثورة الرقمية مهددة اليوم بالثورة الإعلامية المضادة، حيث تمكن الاستبداد وكتائبه الالكترونية وذبابه من استيعاب صدمة الحرية الإعلامية الأولى، فبدأ بثورته المضادة عبر شحذ مواقعه وكتائبه في الدفاع عن استبداده السياسي، وتلعب قدراته المالية الضخمة دوراً كبيراً في تمدده وتوسعته، على حساب معسكر الحرية، لاسيما وأن المعسكر الأولى متسلح بدعم سياسي سلطوي يفتقره كثيراً الطرف الآخر وهو المعني بالحرية، ومحاربة الفساد والباحث عن الحوكمة الرشيدة. لكن مع هذا كله فإن الإصرار والمعرفة والقرب من الجمهور وملامسة قضاياه واهتماماته تعد ميزة كبيرة، ومهمة لمعسكر الحرية، مما يعني انحسار معسكر الاستبداد والمدافعين عنه، ومعه ينحسر أيضاً الترويج لفكرته وتمددها. وقد لاحظ خبراء اجتماع وسياسة غربيون ذلك بوضوح، وتحدثت مجلة الفورين أفيرز الرصينة عما وصفته بالركود الديمقراطي العالمي الذي طال أمده، وتحوله إلى الموجة العكسية الثالثة، بعد أن حذر عالم السياسي صموئيل هنتغتون من أنها قد تتبع الاندفاع الملحوظ للتقدم الديمقراطي في الثمانينيات والتسعينيات، وحتى أن الديمقراطية تتراجع في أمريكا بحسب تقديرات المجلة. كل هذا يستدعي مراجعات حقيقية من أساطين المعرفة والعلم، لمعرفة مدى تراجع الديمقراطية في ظل الثورة الرقمية، أو العكس وذلك من أجل رسم خريطة طريق حقيقية للتعاطي مع هذه المستجدات، وحتى التعامل مع ظواهر أفرزتها هذه الثورة الرقمية سلبية كانت أم إيجابية، وما أكثرها.