11 سبتمبر 2025
تسجيلفي كل مرة أركب فيها الطائرة مغادرة أو قادمة من عاصمة الضباب لندن، تصر ذاكرتي على أن تستعيد ذكرى مغادرة أبي الحبيب إليها جسدا، وعودته بعد أيام منها على نفس الطائرة جسدا بلا روح، أحاول في بداية كل رحلة أن أشيح بوجهي عن جسم الطائرة كي لا تلتقط عيناي الاسم الذي تحمله الطائرة، والذي لن تنساه ذاكرتي ما حييت. وأحاول جاهدة بعدها أن أشغل نفسي بجميع وسائل الترفيه المتاحة، أو قراءة مجلة أو جريدة، ولكن في كل مرة تنهار كل قواي في القدرة على التحمل وتتضح هزيمتي حين أتعرض لهجمة شوق شرسة، وبكاء بدموع وقحة لا تكترث لعيون الآخرين، أحاول أن أتوارى بها بيدي عمن حولي في خجل. خمس سنوات مضت، وما زلت أرسل الرسائل إلى هاتف أبي المغلق، وأحتفظ باسمه في قائمة الأسماء، لكن رسائلي اختلفت كثيرا، ففي أولى سنوات رحيله كانت رسائلي مليئة بكلمات الشوق المختلطة بالدموع الغزيرة على صدمة رحيله وألم غيابه، وبعد مرور هذه السنوات الخمس أصبحت رسائلي له تجمع بين كلمات الشوق الذي لا يخبو، وكلمات أخرى كثيرة يختارها داخلي له لما أصبحت أكنه له من احترام عظيم وتقدير على دوره الذي كان في حياتي، والذي أصبح كالدرب الذي رسمه كي لا أضل بعده، ومع مرور الأيام أدرك كم تعلمت منه، وأصبح كل يوم يمر في حياتي وينقص من عمري، يضيف في حساب حبه. كثيرا ما أتذكر قصة عن فيلسوف الهند طاغور انه بعد أن مرت سنوات طويلة والتقى أول حزن كبير في حياته قال له: ألا تعرفني، فرد عليه: اعذرني فالسنين مضت ولا أستطيع أن أراك جيدا، فقال له: أنا أول حزن كبير في حياتك، فرد عليه قائلا: ما كان حزنا يوما، أصبح الآن سلاما. من قال ان حبنا وشوقنا لمن غيبهم الموت ينطفئ بعد أن يرحلوا، نحن لا ننسى الأعزاء ولا نكف عن الحزن عليهم، إلا أن مرور السنين يجعلنا رغماً عنا نعقد معاهدة سلام مع أحزاننا كي تسير حياتنا، وفي الوقت نفسه لا نستطيع أن نمنع قلوبنا من أن تحتفل بمرور السنوات على الأحزان الكبيرة. الشيء الغريب أننا لا نرى ثمرة وجود الراحلين في حياتنا والأضواء التي أضاؤوها في طريقنا إلا بعد أن يمضوا ويرحلوا، فتقف بعدها أرواحنا وقفة حب وعرفان لهم ولكن بعد فوات الأوان أحيانا. من أهم الأشياء التي تفسد حياتنا نحن البشر أننا لا نتعلم من تجارب بعضنا البعض، ولم نتعلم بعد أن الأيام التي تمضي لا تعود، وأن اللحظات التي نبخل بتمضيتها اليوم مع الأعزاء متعللين بدوامة الحياة سوف نندم كثيراً عليها يوماً. ولا تزال تمر الأيام، ويرحل الكثيرون، ويندم الكثيرون، ومازال البعض لا يتعلم ويتعلل بنفس الدوامة. عزائي ان من أجمل الأشياء التي كانت بحياتي تلك الأيام التي قضيتها مع أبي واللحظات التي لم أبخل بها أبداً، لقد منحت نفسي فرصة أن يغمر حياتي بحبه واهتمامه، كما أعطيت نفسي فرصة أن أقدر وجوده العظيم الذي كان في الحياة.. خمس سنوات مضت، وعشرات السنوات قد تمضي.. لا يهم.. ستبقى الغائب الحاضر فأنت مازلت في قلبي... رحمك الله يا أبي.. ورحم موتى المسلمين. [email protected]