15 سبتمبر 2025

تسجيل

القصاص الإلهي .. ولو بعد حين

23 نوفمبر 2023

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ». يجمع هذا الكتاب القصير بين دفتيه نزراً من وقائع شهدت على ظلم بني البشر حين جاءت عواقبها من جنس جورها مصداقاً لوعيد الله تعالى، حيث وقع القصاص العادل على من طغى وبغى جزاءً وفاقا، ولو بعد حين. يعرض كتاب (عدالة السماء) مجموعة لقصص إنسانية وقعت أحداثها بالفعل، منها ما هو مبكٍ ومنها ما هو مشوب بفرح في خواتيمها، تستحق التمهل والتدبر واستخلاص العبر، وقد شهد الكاتب شخصياً على بعض منها. وعنه، فهو محمود شيت خطاب (1919-1998) من مدينة الموصل العراقية. التحق بالعمل العسكري كقائد شارك في حرب فلسطين عام 1948، وله من المؤلفات الدينية والسياسية الكثير، فضلاً عن أبحاثه المنشورة في الصحف العربية والإسلامية. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة الصادرة من الكتاب عام 2014 عن دار وحي القلم، والتي أخصّها بالقصة الأولى وقد احتلت عنوان الكتاب وما جاءت به من عجيب القدر والعدل الإلهي، وببعض الاقتباسات (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): رغم شظف العيش الذي كان الأب الكادح يقاسيه -وهو يعيل زوجة وخمسة أطفال ووالدة مسنة وأختين- من بيع الخضار في زقاق الحي، فقد كانت الفرحة تغمرهم جميعاً لحظة رجوعه إلى البيت مساءً، فإذا كان يحمل من اللحم شيئاً وإلا فما تبقى من خضار كاسد يكون عشاؤهم الذي يحمدون الله عليه حمداً كثيرا، وينعمون بنوم دافئ في الحجرة الضيقة التي تضمهم جميعاً مع ما يحيط بهم من أمتعة، وهم «لا يتمنون على الله غير الستر والعافية وألا يجعلهم يحتاجون إلى إنسان». تبدأ الأحداث الدامية تموج بالعائلة السعيدة مع موت الأب المفاجئ حين تصدمه مركبة وهو عائد إلى البيت، فيجمع الجيران الفقراء من المال ما يلزم لتجهيز نعش الفقيد وما يكفي يومين لمعونة العائلة، حتى يهجر الابن الأكبر مدرسته ليحلّ مكان أبيه في بيع الخضار، ثم يضطر إلى تركه للالتحاق بالتجنيد الإجباري. وما يلبث الأمر حتى يحين وقت التحاق الأخ الذي يصغره، فلا تجد الأم بد من بيع بيتهم المتهالك الذي لا يملكون سواه لسداد البدل النقدي عن خدمته. وبعد عملية البيع تستقل الأم مركبة أجرة لتلحق بموعد السداد الذي لم يبق عليه سوى يوم واحد في مدينة مجاورة، فتدفع للسائق أجرته مقدماً ويستمع لقصتها أثناء الطريق، حتى يلعب الشيطان برأسه طمعاً في المال المتبقي بحوزتها، فيعمد إلى تغيير مسار الطريق نحو واد صخري سحيق، فيسحبها عنوة نحوه ويطعنها بخنجره ويسلبها ما جمعت من مال ويغادر وهي تغرق في بركة من دمائها! غير أن المجرم لا بد وأن يحوم حول جريمته، ففي أثناء عودته من المدينة التي قصدها مارّاً بجانب الوادي، يركن مركبته ويهبط ليفاجئ ببقاء ضحيته على قيد الحياة مضرّجة في دمائها، فيلعنها قائلاً: «ملعونة! ألا تزالين على قيد الحياة حتى الآن؟» ويعمد من فوره إلى صخرة كبيرة ليلقيها على رأسها ويضمن هلاكها، حتى يضجّ المنحدر بصراخه الذي جلب نحوه الركّاب، إذ بحية ضخمة كانت تتربص له تحت الصخرة تلدغه في التو.. فينقلهما الإسعاف ويموت السائق وتعيش الأم. يستمر الكدح وتمر الأعوام ويكبر الأبناء، فيتخرج أحدهم طبيباً والآخر مهندساً والآخر ضابطاً بعد أن توسعت تجارة الابن الأكبر. فيتساءل الكاتب في ذهول: ماذا لو لم تستقل الأم المركبة؟ وماذا لو لم يعد السائق؟ وماذا لو لم تبرز الحية ويتكالب الركّاب؟ «وما كانت المرأة الجريحة لتسلم من الموت الأكيد لو لم يعد إليها الجاني مدفوعاً بغريزة حب الاستطلاع، وبالقوة الخفية التي هي القدر». وهناك، قرب الجسر الكبير في بغداد، وفي المنزل الوثير الذي أصبح يجمع العائلة الكبيرة، يدعو الابن الأكبر الكاتب ليقابل والدته، ويسألها عمّا أحاط به من خوارق اللامعقول، لا يفسّرها سوى مشيئة الله العلي القدير. «وجاءت الأم وقد أحاطت شعرها الأبيض بغلالة بيضاء، وفي وجهها نور، وعلى قسماته ابتسامة، وعلى لسانها ذكر الله وروت لي قصتها كاملة. فقلت لها: «وماذا كان شعورك حين تركك الجاني وحيدة تنزف جروحك دماً في بطن الوادي السحيق؟». فقالت والإيمان الصادق يشع من كلماتها: «كنت أخاطب الله عز وجل قائلة: يا جبار السموات والأرض أنت أعلم بحالي! فهيئ لي بقدرتك القادرة أسباب دفع البدل النقدي عن ولدي، ليعود إلى أهله ويعيلهم.. يا رب». واستجاب الله دعاءها وأعاد إليها مالها وولدها، وانتقم لها من خصمها، وبدل حال العائلة كلها إلى أحسن حال». يعقّب الكاتب وهو متيقّن بتدبيره تعالى التي لا تجري على مقاديره الصُدف، قائلاً: «إن الناس يغفلون وينامون والله وحده لا يغفل ولا ينام، والناس يخشون الناس والله أحق أن يخشوه.. والله يُمهل ولكن لا يُهمل.. ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب». وأختم كما ختم الكاتب بسؤال شهد على عدل الله في عواقب الأمور: «هل يمكن أن يحدث كل ما حدث صدفة؟» حقاً.. «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ».