21 سبتمبر 2025
تسجيلمازال النظام السوري يعتمد أسلوب المراوغة مع الجامعة العربية، وينتهج سياسة المماطلة في التعاطي مع مبادرتها، فهو رغم إعلانه عن قبوله ببنودها فقد قام بالعمل على النقيض منها، فبدلا من إيقاف العنف زاد من وتيرة قتل المحتجين السلميين في الشوارع والساحات والتنكيل بهم، فضلا عن أنه لم يقم بأي إجراء على الأرض لسحب الجيش والمظاهر العسكرية من المدن، وظل على عهده بتجاهل مطالب المعارضة، دون أن يفتح مع أي منها سواء في الداخل أو الخارج حوارا جديا. وعندما طلبت الجامعة زيارة بعثة مراقبين من طرفها لتقييم الوضع السوري، رحب النظام بها، وعندما وصل الأمر إلى توقيع البروتوكول الخاص بهذه البعثة حتى تستطيع البعثة ممارسة مهامها فعليا لا شكليا، طلب النظام تعديلات تعجيزية على هذا البروتوكول تفرغها من مضمونها، وهو ما مسّ جوهر عمل هذه البعثة وغيّر جذريا من طبيعة عملها، وأدى بالتالي لرفض الجامعة لها. لم يكتف النظام بذلك، بل حاول من خلال وزير خارجيته استباق الأمور ومواصلة ممارسة عملية التضليل الإعلامي عبر المؤتمر الصحفي الذي عقده الأحد الماضي، فأظهر حرصه على الحلول العربية من خلال الجامعة رغم غمزه لها من خلال اتهام أطراف عربية لم يسمّها باستخدامها مطية للوصول بالملفّ السوري إلى مجلس الأمن الدولي، كما حاول التأكيد على تمسك نظامه بالمبادرة العربية، من خلال إشارته بأنه سيردّ على رسالة الأمين العام لجامعة الدول العربية التي رفض فيها الأخير تعديلات بلاده بشأن مهمة بعثة المراقبين وذلك بمجموعة من الاستفسارات "العقلانية" ـ على حد تعبيره ـ تنطلق من ضمان السيادة الوطنية ورغبته في توضيح طبيعة عمل البعثة وضمان أمن أعضائها. ولأنه يعتبر الوقت يصبّ في صالح نظامه فقد حاول الوزير التقليل من شأن المهلة التي حددتها الجامعة لبلاده للتوقيع على بروتوكول لجنة المراقبين وانتهت السبت الفائت، مؤكداً أن هذا الأمر ما زال في حالة "أخذ ورد" مع الجامعة. وتتضح المراوغة التي يمارسها رموز النظام أيضا بصورة جلية من خلال التناقض فيما بين تصريحاتهم الإعلامية، وذهاب بعضهم في تصريحاته لنقض بنود المبادرة، ففي نفس يوم المؤتمر الصحفي للوزير المعلم أجرى الرئيس السوري حوارا مع صحيفة " صنداي تايمز" البريطانية قال فيه: إن الحل لا يكمن في سحب قواته من المدن، بل بالتخلص من المسلحين الذين يتهمهم بإطلاق النار، وأعاد اتهام الجامعة بتبرير التدخل الخارجي، وواصل تحذيراته وتهديداته من "زلزال" قد يهز منطقة الشرق الأوسط إذا ما تعرضت بلاده لتدخل عسكري من الخارج. لقد رحب الشعب السوري بمبادرة الجامعة ولكنه صار يخشى من ممطالة النظام في تنفيذها وتخطيطه لتمييعها، فالأسبوع قد يجرّ أسبوعا آخر، والشهر قد يجرّ شهرا آخر، وهو ما يعني وجبة يومية من دماء الأبرياء الذين تزهق أرواحهم، واستمرار معاناة المدنيين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة في حراك سلمي هو العنوان الأبرز لثورتهم. وفي رأينا فإن المطلوب من الجامعة العربية ـ وبشكل واضح وحاسم ـ في اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم غد ما يلي: ـ الخروج من دوامة المدد ومنح المهل الزمنية وجولات التفاوض طويل النفس التي قد يدخلها النظام السوري فيها مرة تلو المرة، وهو يظهر حرصه على مظلة الخيمة العربية ظاهرا، ويطعن في نواياها ونوايا أعضائها ويعمل بعكس بنود مبادرتهم باطنا، فبعد طلب "التعديلات" ها هو النظام يريد أن ينتقل مربع "الاستفسارات" ولا نعرف ما هي خطوته التالية لكسب الوقت، بموازاة مضيه قدما في مخططاته الدموية. ـ اتخاذ إجراءات عقابية ضده مباشرة كنتيجة لعدم تنفيذ بنود اتفاقية الجامعة لتؤدي إما لإجباره على التراجع الفوري عن المراوغة التي صار جزءا من تركيبته ومسلكه، أو لتضييق الخناق عليه شيئا فشيئا ومن هذه الإجراءات تجميد عضويته في الجامعة، وتحميله المسؤولية الكاملة أو الأساسية عما يجري في البلاد، والاعتراف بالمجلس الوطني السوري وبممثلي المعارضة، والترتيب لمؤتمر للمرحلة الانتقالية (مرحلة ما بعد النظام الحالي)، والبحث عن سبل جدية وفعالة لحماية المدنيين بالتعاون مع دول إسلامية وإقليمية. ـ في حال عدم قدرة الجامعة على اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة وفاعلة لوقف العنف ولجم طغيان وجبروت وبطش النظام المتواصل بحق شعبه، عليها الاعتراف بذلك علنا، وتسليم الملف لمجلس الأمن والتعاون مع المنظمات الإنسانية والحقوقية لتأمين الحماية الدولية للمدنيين السوريين رحمة بوضعهم المأساوي. الجامعة أمام اختبار أخلاقي حقيقي لأول مرة فإما أن تكون على قدر المسؤولية وتنقذ شعبا يموت موتا بطيئا وهو يدافع عن حريته وكرامته أو تقرّ بفشلها، وتنقل الكرة إلى ملعب من يستطيع ذلك على المستوى الإقليمي والدولي. لقد قلت في مقال سابق إن النظام لا يمكنه أن يقبل بالمبادرة، لأن قبوله بها من شأنه الكشف عن الجرائم التي اقترفها على الأقل منذ ثمانية أشهر وحتى الآن، وإن أعلن قبوله بها فإنه سيعمل على إفراغها من مضمونها، ويراهن على عامل الوقت الذي يعتبر أنه يصب في مصلحته، وها هو يمشي في هذا الاتجاه، لذا فإن على الجامعة ألا تترك له مزيدا من الوقت وأن تقول له: كفى، وتعلن ذلك على الملأ.