12 سبتمبر 2025

تسجيل

سيدة هارلي ستريت (2)

23 أكتوبر 2012

منذ أكثر من عام ونصف العام تقريباً كتبت مقالا بعنوان (سيدة هارلي ستريت)، وموضوعه باختصار لمن لم يقرأ الجزء الأول هي إشادتي وإعجابي بالسيدة العجوز التي قاربت الثمانين وهي لا تزال تعمل، والتي صادفتها بإحدى عيادات شارع هارلي ستريت الشهير بلندن، وإنبهاري بهذه السيدة التي وصلت لهذه السن وهي تحتفظ بكامل أناقتها، وتلون وجهها بكل ألوان الربيع، وتمارس مهنتها بكل حيوية ونشاط، وكنت قد أبديت إعجابي على وصولها لهذه السن وما زالت لديها القوة والعزيمة لممارسة العمل والإندفاع بحيوية في الحياة. ولكن منذ أيام قليلة عدت إلى نفس العيادة الخاصة التي كانت تعمل بها تلك السيدة، قرعت جرس الباب وانتظرت في الخارج قليلا، ثم إضطررت لقرعه مرة أخرى رغم علمي بعدم ترحيبهم بالرنين الذي يعتبرونه إزعاجا لا مبرر له، وبعد إنتظار قليل فتح الباب ودخلت لمكتب الإستقبال فوجدت سيدة هارلي ستريت، وقد ذبلت ذبولا شديدا وازدادت تجاعيدها كثافة رغم حرصها على وضع نفس الرتوش الملونة السابقة، والاحتفاظ بنفس الأناقة إلا أنها كانت أكبر كثيرا من أن تتحمل عبء العمل.إبتسمت لي وسألتني عن إسم الطبيب الذي أقصده لكنني إستطعت أن أفهم ما تقوله بصعوبة فحتى نطقها وكلماتها قد أتى عليها الشيب والكهولة، فأعطيتها ورقة بالإسم الذي ظلت تدقق فيه كي تطابقه في قائمة الأسماء لديها، ورغم إني كنت أراه واضحا أمامي في منتصف الصفحة إلا إنها لم تستطيع أن تراه وقد التزمت الصمت كي أعطيها فرصة أن تجده، لكنها طلبت مني أن أنتظر كي تسأل إحدى المسؤولات عن سبب عدم وجود الاسم، وهنا أردت أن أختصر الوقت وأشرت إلى الاسم على ورقتها وكأنني قد وجدته للتو، وهنا ضحكت وشكرتني وطلبت مني الجلوس في غرفة الانتظار، وبعد دقائق جاءت لتطل علي في غرفة الانتظار ونظرت لي باستغراب ثم قالت لي: متى جئت وماذا تنتظرين؟ فأجبتها مذكرة لها بأنني من دخلت منذ دقائق، وهنا يبدو أنها تذكرت فاعتذرت وإنصرفت إلى مكتب الإستقبال الذي أستطيع أن أراها تعمل فيه. وبعد قليل عادت مرة أخرى لتطل في غرفة الإنتظار، نظرت إلى وجهي ثم إندفعت داخل الغرفة إلى قنينة الماء الكبيرة المخصصة للشرب ولكمتها بيدها كي تتأكد من وجود الماء داخلها، رغم إنه واضح كل الوضوح للعيان بأنها مملؤة بأكثر من النصف. وهنا شعرت بنوع من الشفقة التي حلت محل إعجابي الشديد بنشاطها وحيويتها وقدرتها على العمل وهي بهذه السن الكبيرة، وكنت أفكر بشأنها حين قطعت حبل أفكاري عندما عادت وطلبت مني مرافقتها إلى غرفة الطبيب وما أن وصلنا إلى الغرفة ودخلنا وبمراجعة الطبيب للإسم إكتشف بأنها أدخلتني في غرفة طبيب آخر بالخطأ، وعدت إلى غرفة الإنتظار، ونظرت إلي متسائلة: من أنت؟ أما زلت هنا؟ فوضحت لها بأنها أدخلتني لغرفة طبيب آخر بالخطأ، فتألمت لما حدث وإعتذرت لذلك الخطأ!!!وأخذت أتألم حقا وعدت وإكتأبت لأن سيدة هارلي ستريت قد وصلت لهذا الضعف ولا تزال تعمل، وعدت أتراجع عن إعجابي لمن يصل لسن متأخرة ولا يزال يعمل، بدلا من أن يخلد للراحة بعد الشقاء في آخر مراحل العمر. وعدت أحدث نفسي في نقاش داخلي بأن الإنسان ومع ما قد يتمتع به من حيوية ونشاط، إلا أن لكل مرحلة من مرحل العمر ما يناسبها، وإن مرحلة العمل في حياة الإنسان لابد وألا تمتد إلى مرحلة الكهولة التي هي مرحلة ضعف وإن بدا على الإنسان غير ذلك. لست أنا من أغير رأيي بسرعة، لكن ما حولنا أحيانا، وتجاربنا في الحياة، هي من تجعلنا نفهم أكثر، ونغير نظرتنا أحيانا في كثير من أمورها..