11 سبتمبر 2025

تسجيل

رحلتي مع الدبلوماسية القطرية: أربعون عاماً في خدمة الوطن

23 سبتمبر 2020

مع نهاية مهمتي كسفير للدولة في ألمانيا، تكون رحلتي الدبلوماسية التي امتدت لأربعين عاماً قد بلغت محطة الوصول، وإذ أعود الآن إلى الدوحة لمواصلة القيام بالواجب الوطني من موقع آخر في سلّم المسؤولية، فإنني أود اغتنام هذه المناسبة للتوجه بالشكر والتحية إلى مؤسسة وزارة الخارجية التي نشأت في كنفها وتعلمت في مدرستها بما زوّدني بتجربة غنية كانت وستبقى دوماً في خدمة دولتنا وقيادتها الحكيمة. لقد دخلت السلك الخارجي مبكراً فور انتهاء دراستي الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980، ثم بدأت بالتدرج في كوادره والتنقل في مراتب دبلوماسية في وزارة الخارجية كما في سفاراتنا في الخارج، بدءاً بدرجة سكرتير ثالث إلى سفير متجول في عدد من البلدان وانتهاء بمهمة سفير في باريس وواشنطن ومدريد وبرلين، كما تشرفت بعضوية الوفد القطري خلال فوز قطر باستضافة كأس العالم لمباريات كرة القدم لعام 2022. في تلك الفترة وما تبعها منذ 1995 مع تولي صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم، شهدت قطر نهضة شاملة أسست لدورها كوسيط موثوق في نزاعات إقليمية ودولية، أعقبتها تطورات وأحداث مفصلية في المنطقة، من احتلال العراق إلى اندلاع ثورات الربيع العربي وتفاعلاتها المتواصلة حتى اللحظة، وأخيراً جاء حصار قطر الغادر والجائر من قِبل بعض "الأشقاء" المجاورين، ليعطي دبلوماسيتنا شحنة زخم لشرح قضيتنا في الخارج وتفنيد مزاعمهم مع حشد الدعم لعدالة وصوابية موقفنا وسياستنا المبنية على مبادئ الحوار والسلام والالتزام بالقوانين والمواثيق والأعراف الدولية. وقد استندت قطر في ذلك إلى علاقات إقليمية ودولية حرص أمير البلاد المفدى صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على توطيدها وتطويرها وبما وفّر مساحة واسعة للتحرك حفاظاً على قضايانا الوطنية. خلال معايشتي لتلك الأحداث والتحديات عملت من موقعي الدبلوماسي بمختلف مراتبه وأماكنه لترجمة سياستنا الخارجية، مسلحاً بتوجيهات القيادة لشرح وتوضيح مواقفنا وتوسيع دائرة علاقاتنا ومصالحنا، من خلال اتصالاتنا مع المسؤولين ووسائل الإعلام وأهل الرأي والأوساط المؤثرة السياسية والثقافية والفعاليات الاقتصادية وهيئات المجتمع المدني ومراكز الفكر والدراسات، فضلاً عن أفراد وشخصيات ومنظمات الجاليات العربية حيث وجدت. وتؤكد التجربة أن التواصل مع هذه الجهات الحكومية والمدنية والشعبية المختلفة، وفي ساحات متنوعة الثقافات واللغات والمعتقدات والتقاليد، هو خير الوسائل لتعزيز التفاهم والتفهم والتقارب بين المجتمعات وترسيخ لغة التخاطب والحوار وبما يخدم المصالح المتبادلة والقواسم الإنسانية المشتركة بينها، فالدبلوماسية ليست فقط فن الإقناع والتأثير ووسيلة لحلّ الخلافات بصورة سلمية، بل هي أيضاً وأساساً نقطة تقاطع لبناء الجسور التي تنهض عليها العلاقات السويّة بين الأمم والحكومات والشعوب. وقد تيسّرت لي الفرصة والدور خلال هذه الرحلة لخوض غمار هذا الميدان بكل تنوعاته وتحدياته، مستعيناً بالدعم الذي لقيته على الدوام من وزارة خارجيتنا التي أودعها الآن متقدماً بالشكر لسعادة الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية على ما لقيته من جانبه من مساندة ومؤازرة ساعدتني في أداء مهمتي على الوجه الذي يخدم مصلحة قطر الوطنية في العواصم التي عملت فيها. كما أتقدم بالشكر الخالص إلى وزراء الخارجية الذين عملت معهم خلال مسيرتي الطويلة، وفِي مقدمتهم معالي الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، وسعادة الأخ أحمد بن عبدالله آل محمود وسعادة الدكتور خالد بن محمد العطية، والإخوة والأخوات والزملاء الذين كان لي شرف العمل معهم في الوزارة والخارج، وأخص هنا أستاذي الكبير السفير عبدالقادر بريك العامري والوزير الدكتور حمد عبدالعزيز الكواري، تقديرا لما لمسته من جانبهم من تعاون ومودة ساهمت في تسهيل مهمتي في إطار جهدنا المشترك لخدمة الوطن. وطبعا لابدّ في هذه اللحظة الفارقة من أن أتوجه بالشكر وفائق الامتنان لعائلتي التي رافقتني المسيرة وتحملت ظروف الغربة والبعد عن الوطن، مع أن الرحلة لم تكن شاقة بقدر ما كانت شائقة ومفيدة لناحية ما أفسحته لنا من مجالات للتعرف على ثقافات ولغات ونماذج حياة وأفكار مختلفة تغني المعرفة وروح الانفتاح الإنساني. وإذ أكرر عظيم الشكر لوزارة الخارجية التي تشكلت حياتي تحت ظلها، فإنني أتطلع إلى كتابة مذكراتي ذات يوم، عن تجربتي الدبلوماسية التي أتاحتها لي هذه المؤسسة التي نفخر بها؛ واضعاً كل إمكاناتي وخبرتي في خدمتها. وأتطلع إلى جيل جديد من الدبلوماسيين القطريين يخوض غمار التجربة ويواصل المسيرة ويواجه التحديات المقبلة، وإذ أعود بالذاكرة إلى بداية مسيرتي الدبلوماسية في الولايات المتحدة قبل أربعين عاماً، أرغب في توجيه كلمة إلى هذا الجيل الشاب، مستشهداً بما قاله الرئيس جون كينيدي للأمريكيين قبل ستين عاماً: لا تسأل عما يمكن أن يقدمه بلدك لك، بل ما يمكن أن تقدمه أنت لبلدك.