13 سبتمبر 2025
تسجيلنادراً ما تلتقي سفيرا يجمع بين الدبلوماسية والثقافة والفكر مثل عبدالقادر بريك العامري (بو فهد)، الذي رحل عنّا قبل أيام. كان بو فهد شخصية عصامية، شقّ طريقه في الحياة معتمدا على نفسه، ومتسلحا بعلمه، ومهتديا بمبادئه. انخرط مبكرا في العمل السياسي خلال مرحلة دراسته الجامعية في بيروت، حيث شكلّت عاصمة الثقافة العربية آنذلك محطة مهمة في بلورة الوعي السياسي والقومي لديه، فخاض غمار التجربة، وشارك في الحوارات السياسية والفكرية، وتعرّف على كبار الشخصيات المؤثرة في تلك المرحلة. حين نالت قطر استقلالها في بداية السبعينيات، وباشرت في تعيين سفراء لتمثيل الوطن، برز اسم بو فهد لما يتمتع به من حسّ قومي وعروبي، وحماس وطني، ومعرفة سياسية. وتمّ تعيينه سفيرا لدولتنا في الجزائر، بلد المليون شهيد الذي تحرر لتوه من الاستعمار الفرنسي بعد أكثر من 130 عاما. أكّد السفير الشاب على التلاحم القومي مع ذلك البلد العربي الأصيل، فانغمس في حياة البلد السياسية وحاور نخبه الفكرية، وتعرف على قياداته وأحزابه وحركاته الوطنية، وبادر إلى توثيق علاقاتنا ومدّ جسور التواصل مع الشعب الجزائري الشقيق. وتعتبر بيروت والجزائر عاصمتين مهمتين في تأهيل بو فهد لخوض غمار مرحلة جديدة في حياته الدبلوماسية، إذ تمّ تعيينه سفيرا لقطر في الولايات المتحدة الأمريكية. شهدت العلاقات بين البلدين تطورا ملموسا في عهده، قطريا وعربيا، نظرا لما تمتع به سفيرنا الراحل من تطلعات وطموحات قومية. فقد عمل على تعزيز العلاقات العربية الأمريكية، ويعتبر أحد رواد العمل العربي المشترك في الولايات المتحدة. بعد تخرجي من الجامعة في ولاية أوريغن الأمريكية عام 1980، تلقيت عرضا للعمل في وكالة الأنباء القطرية. لكن قبل عودتي إلى البلاد بأيام، تلقيت اتصالا من السفارة القطرية في واشنطن يبلغني برغبة بو فهد في تنسيق لقاء بيننا في طريق عودتي إلى الدوحة، فلبيت الدعوة، وسافرت إلى واشنطن، والتقيت بسفيرنا على مأدبة غداء. ودار بيننا حوار سياسي حول قضايا الساعة، والتمست من حديثنا توافقا سياسيا وفكريا في وجهات النظر. وفي ختام لقائنا عرض علي العمل معه في واشنطن، ولما أبديت دهشتي وأطلعته على أمر العرض المقدم إليّ، اتفقنا على أن التحق بوزارة الخارجية في الدوحة، على أن يخاطب الوزارة شخصيا ويطلبني للعمل معه لاحقا. وهذا ما كان. وهكذا بدأت رحلتي الطويلة مع الدبلوماسية القطرية، وكنت لا أزال شابا في بداية العشرينيات من العمر، حيث قضيت أسعد سنوات حياتي في كنف بو فهد، وبدأت مرحلة جديدة تعلمت خلالها الكثير. تعلمت أصول العمل الدبلوماسي، ودخلت الصالون الثقافي والفكري الذي نظمّه بو فهد، وتعرفت على شخصيات مؤثرة، عربية وأمريكية، منها سميح القاسم وكلوفيس مقصود وعبدالرحيم مراد ويوسف الحسن وجميل مطر، وغيرهم. كانت تلك فترة غنية تشرّبت فيها فنّ الدبلوماسية وأصول الحوار السياسي والفكري. وكان أبو فهد حاضرا دائما، معلما ومرشدا، وناصحا مخلصا. كان رفيقا في نقده، ومتوانيا إلى حدّ الكمال: يقرأ تقاريري، ويعيدها إليّ مذيلة بملاحظاته النافذة (باللون الأخضر) لتحسينها. أتذكر بو فهد اليوم في ظلّ الإبادة الجماعية التي يخوضها الكيان الصهيوني ضدّ أشقائنا الفلسطينيين في غزة. كان سفيرنا الراحل يؤمن بأنّ ما أُخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة. وكان يرفض التطبيع مع إسرائيل، ويعتبرها عدوة للشعب العربي، ولا يتوانى عن فضح جرائمها. رحمك الله يا أبا فهد، وغفر لك، وأسكنك فسيح جناته. ستبقى مثالا للدبلوماسي الفذّ، والعربي الأصيل، والمثقف الملتزم بقضاياه الوطنية والقومية، وأبا حنونا نصوحا، وصديقا وفيا. وسنبقى أوفياء لقيمك الراسخة وأفكارك النبيلة التي غرستها فينا. وإلى جنة الخلد إن شاء الله وتعازي الحارة لرفيقة دربه وزوجته الفاضلة أم فهد وأبنائه فهد ونواف وبدر ورنا، وإلى جميع أصدقائه ومحبيه في كل مكان.