13 سبتمبر 2025

تسجيل

الحصار والثقافة المجتمعية

23 أغسطس 2017

نظمت إدارة البحوث والدراسات الثقافية بوزارة الثقافة والرياضة ندوة تحت عنوان (الثقافة المجتمعية في مواجهة الأزمات)، حاضر فيها كل من الإعلامي جابر الحرمي والدكتور ماجد الأنصاري أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة قطر، وأدار الندوة السيد فالح بن حسين الهاجري مدير إدارة البحوث والدراسات الثقافية. وقد ألقى المحاضران الضوء على الملابسات والظروف التي أدت إلى فرض الدول الأربع (المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، مملكة البحرين ومصر) حصارًا جائرًا على دولة قطر منذ الخامس من يونيو 2017. كما تناول المحاضران كيفية تعامل وسائل الإعلام في دول الحصار للأزمة مقارنة بتعامل الإعلام القطري الذي أثبت رزانة في الردّ وفي المبادأة. ولمسَ المحاضران المتطلبات المستقبلية لدور المثقف في المجتمع، على اعتبار أن دولة قطر أصبحت مختلفة عما كان عليه الحال قبل الحصار، كما أشار لذلك حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى في كلمته في اجتماع مجلس الوزراء. نحن نعتقد أن الثقافة لا يمكن أن تنتعش إلا بالمشاركة وعدم وضع حدود أو أسماء تُحدّد مسيرة هذه الثقافة واتجاهاتها. إنها (كمٌّ تراكمي) يساهم فيه الجميع، كل في تخصصه، وأن تكون هذه الثقافة نابعة من روح المجتمع وأصالته ورؤية أبنائه لمستقبلهم. وهكذا تبتعد عن الثقافة (الاستهلاكية) الموسمية التي أشار إليها الدكتور ماجد الأنصاري، بمعنى ألا ترتبط الفعاليات بظرف معين أو مناسبة معينة، أو أن يكون هناك تركيز على نمط ثقافي محدد ومكرر، وأن تكون هنالك ضوابط للمُنتج الثقافي كالكتاب مثلًا، والذي يحتاج إلى أن يتم تحديد أُطرهِ وأشكالهِ ومواضيعه وطريقة إخراجه وقيمة المعلومات فيه! تمامًا كما لا يجوز الخلط بين الكتب الإنشائية أو الدعائية وتلك الإبداعية، التي تخلق لنا مفكرين وأصحاب رؤى لمستقبل الوطن، دون أن يكون الهدف وراء ذاك الإبداع (مهما كانت قيمته) إيصال هؤلاء إلى الشاشات أو صفحات الجرائد! وهنا يبرز جانبُ وعي المثقف وقدرته على (الخَلق) الإبداعي، وتطويع طاقاته إلى الدفاع عن قضايا مجتمعه، دون أن يكون مُجبرًا على ذلك، أو أن يحتِّم ذلك موقفٌ طارئ، لابد أن يكون مشاركًا فيه! وهنا تبرز أيضًا قضية إنتاج الثقافة، دونما أن تتأثر بالأحداث السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. ويتطلب الأمر توسيع مجال الحرية وقبول الرأي الآخر! فقد كنا في الماضي نُحاذر الرقيب، الذي يفرض النص الرقابي الموجود في قانون المطبوعات والنشر(القديم)، "لا يجوز نشر: كل ما من شأنه المساس برؤساء الدول أو تعكير صفو العلاقات بين الدولة وبين البلاد العربية والصديقة"! (البند (هاء) من الفصل الرابع من قانون المطبوعات والنشر). وأعتقد بأن إعلامنا خلال أزمة الحصار قد تجاوز هذا النص، بل إن الإعلام الأمريكي نفسه يتعرض للرئيس الأمريكي يوميًا ولا يعتبر ذلك مَسًّا بالرئيس، وهو ذات الحال مع الإعلام في بريطانيا الذي ينتقد الملكة والحكومة معًا! وعليه، ولمواجهة متطلبات المستقبل تلح الحاجة لإعادة تحديث هذا القانون الذي مضى عليه أكثر من 28 عامًا وأصبح خارج التاريخ والممارسة. حيث إن قطر بعد يونيه 2017 أصبحت مختلفة عما سبق، كما أشار لذلك صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في كلمته بمجلس الوزراء. ولقد طالبتُ أثناء الندوة بأهمية الخروج من شرنقة الثقافة المادية، التي تتكرر في كل الأسابيع والمناشط الثقافية المحلية والخارجية؟! وأهمية الالتفات إلى الثقافة الفكرية التي تعبّر عن رؤى المجتمع، في كافة التخصصات، والتي تم تهميشها في الفعاليات الثقافية السابقة، نظرًا لعدم وجود طاقات كفؤة وقادرة على التفكير بهذا الإنتاج الثقافي أو القدرة على مناقشته مع المسؤولين في الماضي؟! وفي حقيقة الأمر، فمنذ إنشاء جهات الثقافة، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، ثم وزارة الثقافة والفنون والتراث، كانت الأنماط الشعبية (من التراث المادي) هي السائدة وهي التي تخصص لها الميزانيات الضخمة (الحناء، المأكولات الشعبية، النسيج، أنماط حياة الماضي.. إلخ)، دون أن يكون للفكر نصيب في تلك الفعاليات. ولقد، نادينا قبل سنوات بضرورة إبراز الجانب الفكري في تلك الفعاليات، ولكن لم نجد آذانًا مصغية؟! وهذا يصبُّ في ثقافة ما بعد الحصار! الأمر الآخر في قضية إنتاج الثقافة هو تلك "الهوة" بين الفعاليات الثقافية والمثقفين الحقيقيين. وضرورة جَسْر تلك الهوة! ولقد أدت هذه الحالة إلى اعتماد العديد من منتجي الثقافة على أنفسهم، كما فعل المغفور له بإذن الله الموسيقار عبدالعزيز ناصر، والفنان علي عبدالستار، والفنان غانم السليطي وغيرهم من الكتاب والمؤلفين الذين حُرموا خلال الفترة الماضية حتى من حق اقتناء جهات الثقافة لأعمالهم! تمامًا كما حصل في المجال المسرحي أو مجالات الإبداع الأخرى كالفنون التشكيلية والتصوير وغيرها. برز خلال الندوة سؤال مهم من أحد الشباب، وذكَر أن هنالك "هوة" بين المثقف والجمهور. وأن جيل المثقفين المخضرمين يعيشون في "أبراج عاجية"! ولا يتم التواصل بينهم وبين الجمهور. وهذا سؤال مهم، ولا بد من مناقشته بهدوء! فنحن لو أحصينا عدد المثقفين الحقيقيين في قطر، لوجدنا أن العدد ضئيل جدًا، مقارنة بأدعياء الثقافة الذين نراهم يتقدمون الصفوف في الفعاليات الرسمية! وهذه حقيقة تدفعنا إلى تحديد (من هو المثقف)؟ والنظر إلى "الألقاب" غير الدالة التي يُطلقها صغار الصحفيين على بعض الكتّاب والفنانين والإعلاميين! فنحن نقرأ (المفكر الكبير)، (الإعلامي القدير)، (الباحث الكبير)، (الأستاذ الكبير)، وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر. إن المثقفين الحقيقيين لا يعيشون في أبراج عاجية كما يتم تصوُّر ذلك، ولكن الظروف التي يعايشونها لا يعرفها كثيرون. نعود إلى "الهوة" التي ذكرها أحد الشباب في الندوة! لقد تعثّرت الجهود نحو إشهار (جمعية الأدباء والكتاب)، نظرًا لمعوقات إدارية، رغم محاولاتنا لأكثر من 17 عامًا في هذا الاتجاه. إذ لو وُجدت الجمعية لكان لها دور مهم في تجسير "الهوة" بين المثقفين والجمهور. ذلك أن النشاط الثقافي الرسمي عادة ما يكون موسميًا، وقد لا يشارك فيه المثقفون الجادون، من الذين تم تجاهلهم في الماضي، وأريد هنا إبعاد شبح "البرجوازية الثقافية" الذي برز في الندوة، وأُصَحِحُ بأن المُصطلح المناسب هنا هو (الإقصاء الثقافي) الذي مُورس في السابق على العديد من المثقفين الحقيقيين! إن أغلب المثقفين القطريين يتجاوبون مع الطروحات الوطنية والفعاليات المحلية، ولكن إن لم تتم دعوتهم، فهم لن يلجأوا إلى "عرض أنفسهم" على الساحة أو المسؤول، بل إن أغلبهم يترفع عن "العرضحالات" التي لا تناسب مسيرتهم وإنتاجهم الإبداعي. وهذا ليس بالضرورة تكبرًا أو السُكنى في برج عاجي، قدْرَ ما هو الحفاظ على كرامتهم والنأي بأنفسهم عن "المقارعات" المُسببة للصداع، في ظل "فوضى الثقافة" العامة التي يشهدها الوطن العربي بأسره. الموضوع الآخر الذي يجب أن نعطيه بعض الاهتمام هو مأسَسة الثقافة، وضرورة قيامها على قاعدة شعبية، مع كل التقدير لدور وزارة الثقافة والرياضة ومنتسبيها من الشباب المتحمس، وعلى رأسهم سعادة السيد صلاح بن غانم العلي وزير الثقافة والرياضة، والذي أدخلَ مفاهيمَ جديدة في العمل الثقافي والشبابي. وكذلك أهمية وجود تعاون بين جهات الثقافة والمثقفين القطريين، وأن تكون هنالك مشاريعُ مجدولة لإنتاج الثقافة، سواء عبر الإصدارات بأنواعها، أو عبر الفعاليات المحلية والخارجية أو عبر تفعيل دور الثقافة في المناسبات الوطنية المحلية، مع إعطاء هذه الفعاليات صفة الشمولية كي ترضي جميع الأذواق! وبعد، فإن الهَمَّ الثقافي مؤرق وشاق، ولكن الأمر يحتاج إلى الصبر والتأني، لأن الثقافة "كمٌّ تراكمي" كما سبق، ولا تظهر نتائجُها بين يوم وليلة! وعليه، فإن جيل الشباب الذي سوف يحمل مشعل الثقافة في الغد، لا يمكن أن نفصله عن الجذور، وعن أخذ التجارب من الجيل السابق، الذي عانى الكثير وصبرَ الكثير ولم يَحد عن الدرب! وهنا تكمن أهمية ما سبق طرحه من مشاريع مؤسسية للثقافة، تجمع بين الجيل السابق والجيل الحالي كي يتعرف جيل الشباب على تجربة الجيل السابق، ويضع له الرؤى التي تعينه على أداء دوره الثقافي في خدمة مجتمعه.