10 سبتمبر 2025
تسجيلكما سبق أن كتبت أن العقدين الأخيرين شهدا تطورا هائلا وغير مسبوق فى وسائل الإتصالات حتى أن الكثير من الكُتاب يعتبرون أن هذه الطفرة وهذا التطور لم تشهد له البشرية مثيلا منذ الثورة الصناعية .. وأنا أتفق معهم فى هذا بل أزيد بأنه يتجاوز أثر تلك الثورة من حيث كونها قفزة معرفية هائلة تمثلت بصورة أساسية فى ثورة الإتصالات التى حولت عالمنا بقاراته المختلفة إلى قرية كونية متصلة ببعضها . وكعادة رجال المال أو ما أصبحنا نطلق عليهم رجال الأعمال فى كل الأزمنة وجميع الأماكن فى تحويل كل ما يصادفهم إلى مصلحتهم فقد أصبحت الإعلانات المحرك الأساسى لأى وسيلة إعلامية بل وأصبحت تفرض هيمنتها فى إختيار نوعية البرامج وأسماء الشخصيات المشاركة فيها .. ويندرج نفس الكلام على الأعمال الدرامية التى أصبح أصحاب الإعلانات يختارون أبطالها بالإسم مهما تكلفت شركات الإنتاج من أموال وذلك بدعوى أن وجود هذه الشخصية فى العمل الدرامى يكون عامل جذب للمشاهدين فى متابعة الإعلانات وبالتالى الإقبال على السلع والمنتجات التى تتناولها إعلاناتهم .. ولا أذيع سرا إذا ما عرفنا أن هناك صفقات وتحالفات بين شركات الإعلانات للسيطرة على ما تبثه الفضائيات بالكامل . وحتى وقت قريب كانت هناك قنوات محدودة وتبث برامجها فى ساعات تكاد تكون معروفة للكافة .. كما كانت هناك مواعيد محددة لبداية وإنتهاء ساعات البث التليفزيونى وبالتالى كانت هناك أوقات محددة لبث الإعلانات والتى كانت تنحصر فى الوقت الذى يسبق بث الأفلام أو المسلسلات أوالمباريات أو فى فترات الإستراحة بين أشواط المباريات .. ولم يكن هناك أى إعلان يتخلل أى فيلم أو عمل درامى مهما كانت الأسباب .. وكان هناك مسلسل درامى واحد يلتف الجميع حوله وكان يعاد بثه مرة أخرى أثناء ساعات الإرسال المحدودة .. وفيلم عربى يوم الخميس .. ومباراة فى كرة القدم يوم الجمعة عصرا وأحيانا يوم الأحد .. وكانت الحياة ممتعة على الأقل لأنه كان هناك وقت للقراءة .. وكان كل شخص يقرأ صحيفة ورقية على الأقل كل يوم حيث كانت كل الأسر تحرص على إقتناء صحيفة واحدة يوميا .. وأحيانا مجلة أو أكثر .. منها المجلات النسائية والإجتماعية والمجلات المتخصصة للأطفال .. هذا فضلا عن الكتب التى كان يقرأها الإنسان العادى سواء بالإقتناء أو عن طريق الإستعارة أو حتى تبادل الكتب بين الأصدقاء . ولكن الصورة إختلفت تماما الآن .. وبالتحديد فى العقدين الأخيرين حيث حدثت تلك الطفرة التكنولوجية التى أشرنا إليها فى بداية مقالنا هذا .. وبالتالى تطورت وسائل الإتصالات بشكل كبير للغاية .. وإنعكس ذلك على وسائل الإعلام بالضرورة فمن الواضح أن عصر الكلمة المكتوبة قد أصبح فى مأزق وخاصة الصحافة الورقية التى يجمع الخبراء على أن عهدها قد ولى ولن يصمد أمام العهد الجديد للتكنولوجيا وخاصة أنه أصبح هناك عدد هائل من القنوات الفضائية والتى يعجز أى إنسان أن يعرف عددها.. بل أكاد أزعم أنه لا توجد هيئة أو جهة تستطيع أن تحصر عدد الفضائيات التى تبث إرسالها لنا .. ولكن من الواضح أن هناك سمات مشتركة بين هذه الفضائيات .. وسنحاول هنا أن نرصد بعضها .. ومنها على سبيل المثال أن جميع هذه الفضائيات تعمل طوال الأربعة وعشرون ساعة يوميا .. بمعنى أنها تبث برامجها بدون توقف .. والعمل أو البث فى حد ذاته ليس بالعمل السئ .. ولكننا لو نظرنا إلى الناتج لهالنا أن نعرف أن الجديد لا يتجاوز ساعتين أو ثلاث يوميا وأن باقى الوقت يستهلك فيما بين إعادة بث الأفلام أو حلقات المسلسلات أربع مرات يوميا على الأقل وبين الإعلانات التى تسبق وتتخلل وتعقب كل مادة يتم بثها وهو ما سنتطرق إليه لاحقا . كما أنه لوحظ أن جميع هذه الفضائيات لا تكتفى بقناة واحدة بل تجد نفس الإسم مكرر وبإضافة رقم واحد أو إثنان أو ثلاثة وهكذا .. وبعض القنوات تنشئ لها فروعا تحت مسميات الثقافية أو الرياضية وغيرها .. وإذا ما عرض الأمر على المتخصصين فى المجال الإعلامى فسوف نجد أن القائمين على تلك القنوات يزيدون من بث بعض المواد فى محاولة منهم لصبغها بالتخصصية فى محاولة لجذب شرائح معينة من المشاهدين .. وهو أمر غير صحيح من الناحية العلمية .. المهم عند هؤلاء هو الإعلانات التى باتت تتحكم فى كل شئ تقريبا .. وتطارد المشاهدين فى كل الأوقات قبل وبعد وأثناء البرامج والمسلسلات والأفلام .. فبعد أن كنا نشاهد بعض الإعلانات قبيل البرامج التى نشاهدها أصبح ذلك غير كاف بالمرة – من وجهة نظر مسئولى تلك القنوات بالطبع – فقد أصبحت الإعلانات مفروضة على المشاهدين ولفترات طويلة جدا قبل أى مادة معروضة .. وما يكاد البث يبدأ حتى يتم قطعه بسبب الإعلانات لدرجة أن الكثير من المشاهدين – وهذه ليست طرفة – ينسى ما كان يشاهده من جراء طول فترة الإعلانات .. وهذا الإلحاح فى البث الإعلانى أصبح مصدر ضيق لكل الناس من جميع الأعمار حتى أننى سمعت بعض الأطفال وهم يتحدثون فى ذلك الموضوع وكيف أن الأمر برمته تحول إلى إعلانات تتخللها بعض البرامج . والمشكلة الحقيقية أن أغلب هذه الإعلانات يكون شديد الجاذبية حيث تقوم بدور فاعل فى جعل كل ما كان مستحيلا أو صعبا أو حتى ممكنا فى المستقبل ممكنا فى الواقع وسريع التحقيق وسط جملة من الأكاذيب والصور شديدة الجاذبية والإيحاءات الإعلانية التى تلعب على وتر الحاجة وحب التملك وغيرها من الغرائز والتى لا يخلو الأمر من أن تصل الى الناحية الجنسية . والمؤسف حقا أن ضحايا الإعلانات ليس الأطفال والنساء الغير متعلمات فقط ولكن الأمر يتجاوز ذلك ليشمل فئات المتعلمين المفترض فيهم درجات عالية من الوعى والتدقيق . ولو أن المشكلة إقتصرت على النزوع الإستهلاكى وحمى الشراء لهانت الأمور .. ولكن المشكلة تفوق ذلك بكثير بسبب التعارض فى الدور والرسالة والمسئولية .. وأيضا بسبب التداخل فى طبيعة العمل الإعلامى والإعلانى حيث إجتاح الإعلان الكثير من الثوابت والتقاليد المعمول بها والمتوارثة عبر الأجيال المتعاقبة .. ووصل الأمر إلى تضخيم الأدوار وتزييف الحقائق بسبب سطوة رجال الأعمال وقدرة المال على فعل الصعب والمستحيل حتى أصبح من المألوف شراء صفحات كاملة من الصحف الكبرى تغطيها الإعلانات .. ومن البديهى أن يكون ذلك خصما من الدور الإعلامى .. بل حتى والتأثير السلبى الدائم على الأعمال الفنية والدرامية .. ولكن تلك طامة أخرى سنحاول بعون الله أن نسلط عليها الضوء فى مقالاتنا القادمة . وإلى اللقاء فى مقالنا القادم بحول الله .