30 أكتوبر 2025

تسجيل

يا دنيا يا غرامي

23 مايو 2022

في الفريج كانت تلمحني من "دريشة" البيت، كانت الدرايش في تلك الأيام، وفي بيوت زمان قريبة من الأرض. لم يكن هناك ارتفاع يذكر للبيوت، وخاصة تلك التي كانت من "الطين ". أمر عَلى بيتهم كل يوم نحو الملعب القريب، وهو عبارة عن "مسطاح" نلعب فيه كرة القدم كل يوم عصراً. كانت تلبس "البخنق"، وجه جميل مدور قمري مع ابتسامة رائعة، مع تكرار المرور وتكرار الابتسامات شعرت بذاتي لأول مرة تتجه نحو ذاتي ونحوها، وليس نحو الملعب أو كرة القدم. صار المرور أمام دريشة بيتهم أهم عندي من كرة القدم ذاتها في سن مبكرة. كانت تضع في مسجل قديم أغنية نادرة لمطرب كويتي عرفت بعد ذلك اسمه "يحيى أحمد"، والأغنية تقول أول كلماتها "الغريبة جالي تاني بعد ما فات الأوان واللي كان بينا نسيته وانته تدري باللي كان"، غير مشهورة هذه الأغنية، لكنها رسخت في ذاكرتي رسوخاً لم تمحه الأيام. أصبح "الداعوس" الموصل من بيتنا إلى المسطاح اللي نلعب فيه الكورة يعني لي الشيء الكثير، بدأت أعتني بمظهري، اشتريت علبة "بريل كريم" المستطيلة، أم دمغة سوداء، وبدأت أمشط شعري وأعمل الفرق في الشعر، لم تكن عائلتها من أهل الفريج، كانوا مقيمين فقط، وهم من دولة شقيقة مجاورة، كان الراديو ملازمها دايماً، وبث الأغاني ديدنها ومسجلها تضع منه ما تشاء من قديم الأغاني، أذكر منها "كلمة ولو جبر خاطر" لعيسى بدر كذلك. إلا أن أغنية يحيى أحمد كانت تتسرب من دريشتها إلى أذني كثيراً. في يوم ماطر شديد اضطر أهل الفريج جميعاً للخروج من منازلهم التي "خرت" وامتلأت ماءً، حتى أن عفش بعض البيوت خرج يسبح فوق موج من الماء خارجها، والتجأ الناس إلى المدارس المبنية "بالمسلح" كما كنا نسمي ذلك، أي بالحديد والإسمنت، ولمحتها لأول مرة خارج بيتها في السكة مع أهلها، ولم تزل ابتسامتها كما هي. قبل المطر وقبل امتلاء الدريشة بالماء وتهدم جانب من البيت، كانت تنظر بنظرات فيها معنى، وكنت أنظر إليها بنظرات فيها تعجب. مر شهر أو أكثر، غابت مع أهلها في مكان آخر غير بيتها اللبني الصغير الذي داهمه الماء ولم يعد يصلح للسكنى، عادت الحياة بعد شتاء ممطر شديد، أصلح أهل الفريح بيوتهم، وعادوا إليها إلا تلك الفتاة وأهلها. سلكت طريقي يومياً نحن الملعب كما كنت، وفي كل مرة أنظر إلى الدريشة، أو ما تبقى منها على صوت يحيى أحمد أو عيسى بدر، يتسرب إلى مسمعي، ولكن طال انتظاري. وأخيراً وصل إلى علمي أنها غادرت إلى بلدها. ضاقت السكة في نظري واستوحش الداعوس عَلى قدمي.. كان غراماً ليس بها بقدر ما هو غرامٌ بالدنيا في صورتها المثلى لفتى في مثل سني في ذلك الوقت. حتى اليوم إذا ما سمعت أغنية الغريبة أو كلمة ولو جبر خاطر تقفز إلى ذاكرتي، ابتسامتها الجميلة وعيناها اللتان توحيان بأن الدنيا كلها بخير قبل المطر وأثناء المطر وبعد المطر، يا دنيا يا غرامي في الحل والترحال.