14 سبتمبر 2025
تسجيلقال تعالى"صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ" ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم، في ذلك تعليم لأدب جميل، عند مخاطبة رب الأرباب، وكذا عند الحديث عنه تبارك وتعالى، ويتلخص هذا الأدب في أن الإنسان يجمل به أن يُسند أفعال الإحسان إلى الله، ويتحامى أن يُسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإحسان والعقاب صادرا منه، لشواهد كثيرة في الكتاب العزيز لهذا الأدب — خطاباً وحديثاً — الشاهد الأول: من حديث الخليل إبراهيم — عليه السلام — لقومه كما حكى المولى — عز وجل "قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ*فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ*الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ *وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ*رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، (الخلق والهداية والإطعام والسقاية والإماتة والإحياء والمغفرة وفيها دلائل الوحدانية والقدرة والإنعام والإحسان)، ونسب إلى نفسه — عليه السلام — النقص منها، وهو المرض والخطيئة. فأَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وخلَقْه، وَلَكِنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَدَباً. الشاهد الثاني: من دعاء أيوب — عليه السلام — "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ"، هذا فيه غاية الأدب، فهو لم يقل: مَسَسْتَنِي بِضُر، أو أنزلت بي الضر، والله عز وجل هو الذي يخلق الخير والسقم والبلاء. الشاهد الثالث: من قول مؤمنى الجن لما بعث الله تعالى محمداً صلوات الله وسلامه عليه، حماية لوحي السماء، من عبث الجن، رُصدت شهب لمن يسترق السمع من الجن، قطعاً للطريق على شياطين الإنس والجن حتى لا يوحي بعضهم إلى بعض، وإنهاء لضروب الكهانة التي كانت فاشية قبل البعثة المحمدية، وتأمل أدب الجن في حديثهم عن الإرادة الربانية بهذه البعثة الربانية "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً *وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً*وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً" الشاهد الرابع: قول الخضر في خرق السفينة "فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها" لأن كونه يخلع لوحاً من السفينة هذا فيه نوع من الشر والإفساد، لذلك أدباً مع الله سبحانه وتعالى نسب إرادة ذلك إلى نفسه،"فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها" مع أن ذلك قد كان بوحي فقد قال بعد ذلك "وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي". الشاهد الخامس: قول الخضر في شأن الجدار الذي أراد أن يميل فقام على إصلاحه حتى يظل الكنز مدفوناً ومحفوظاً للغلامين اليتيمين وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، ثم قال: "فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما" ؛ لأن فيه إصلاحاً وخيراً الشاهد السادس: قوله تعالى:" مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً" وقبل هذه الآية بقليل أورد المولى — جلَّ مذكورا وعزَّ مُرادا — تصورات بعض الناس، ومفاهيمهم لمُجريات الأحداث، فقال".. وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ.."ولم يخرج من نفس الآية إلا بعدما قرر حقيقة عقدية مهمة هي أن كل الأمور بتقدير الله وقضائه فقال "قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً" الشاهد السابع: قوله تعالى: {..وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ} نسب إذاقة الرحمة إليه، ونسب فعل الإصابة بغيرها إلى السيئة. الشاهد الثامن: قوله تعالى "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ذكر لفظ الجلالة عند فتح الرحمة، دون الإمساك الشاهد التاسع: قوله تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" نسب المس إلى الضر، ولكنه أسند كشفه إلى الله تعالى "كشفنا" الشاهد العاشر: قوله تعالى: "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ" الشاهد الحادي عشر: قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}، فأضاف الشر إلى المخلوقات، يعني: شر الذي خلق أو من شر المخلوقات، فالشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى. الشاهد الثاني عشر: فى التزيين: التزيين المشروع المحبوب يُنْسَبُ إلى الله تعالى ويُنْسَبُ إلى غيره ما كان دون ذلك، قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ" فنسب هذا التزيين المحبوب إليه. وقال: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ" فحذف فاعل التزيين. من دروس سورة الفاتحة — التي تعبدنا الله تعالى بتلاوتها وتدبرها يومياً — التأدب مع الله تعالى — مخاطبة وتحدثاً — بنسبة الإنعام إليه وعدم (نسبة) الشر إليه، فلم ينسب الغضب إليه، وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب للفاعل الخير دون الشر . هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل في القول والعمل، وللحديث بقية بحول الله تعالى وقوته.