13 سبتمبر 2025
تسجيلكثيرة هي القصص التي تحاكي واقع الفساد وأهله في زماننا هذا وعلى مدى العقود الماضية، ونادرةٌ هي قصص حكامها الصالحون الذين زهدوا في حياتهم وحرموهم ملذات الحياة من أجل أوطانهم وشعوبهم، ولاسيما في وطننا العربي الكبير الذي غلبت على العديد من أنظمته الغطرسة والاستبداد واستفحل في عصرها الفساد والفقر، ومن هذه القصص تلك التي وقعت أحداثها عام 1973 عندما زار الرئيس الزائيري وقتذاك الجنرال موبوتو سي سي سيكو، موريتانيا لمدة ثلاثة أيام، وأثناء المباحثات في الأيام الثلاثة الأولى لاحظ الرئيس الزائيري أن مضيفه الرئيس المختار ولد داداه أول رئيس لموريتانيا ( 1960-1978 ) بعد استقلالها من الاحتلال الفرنسي يرتدي بدلة واحدة لم يغيرها طيلة الايام الثلاثة ! أدرك موبوتو أن مضيفه لا يملك المال الكافي لشراء البدلات الأنيقة والباهظة الثمن من دور الأزياء الراقية في باريس، وعند اختتام زيارته وفي صالة المغادرة في مطار نواكشوط سلم الرئيس الزائيري موبوتو شيكا بمبلغ ٥ ملايين دولار لسكرتير الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه لكي لا يحرج مضيفه، وأعطى السكرتير عناوين أشهر مصممي الأزياء في العاصمة الفرنسية والتي يحيك موبوتو بدلاته عندهم ؛ لكي يحيك للرئيس الموريتاني المختار ولد داداه قمصان وأربطة عنق وبدلات رسمية من أرقى أنواع الاقمشة في تلك دور الازياء الراقية ؛ بعد توديع الرئيس الزائيري سلّم السكرتير الرئيس الموريتاني شيك الخمسة ملايين دولار، وقال للرئيس إنها هدية من الرئيس موبوتو لك لكي تشتري بها بدلات وألبسة من باريس، استلم الرئيس ولد داداه الشيك وسلمه لوزير المالية الموريتاني لكي يضعه في حساب الدولة، ولاحقاً ومن مبلغ الخمسة ملايين دولار هدية الرئيس الزائيري تم بناء وتجهيز المدرسة العليا لإعداد الأساتذة والمعلمين في موريتانيا التي كانت تعاني من نقص شديد في إعداد الأساتذة والمعلمين بسبب الفقر والجهل والتخلف. بعد خمس سنوات أي في عام 1978 توقف الرئيس الزائيري في المغرب قادماً من زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية استمرت لأسبوع، وما أن علم الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه بتوقفه في الرباط إلا واتصل به ودعاه لزيارة موريتانيا، اعتذر موبوتو ولكن بعد الحاح ولد داداه وافق على أن تكون زيارته قصيرة، وفي الطريق من المطار إلى القصر الرئاسي لاحظ موبوتو أن لافتات مكتوبة باللغة الفرنسية تزين الشوارع في الطريق مكتوب عليها ( شكراً زائير) (شكراً موبوتو) ( شكراً على الهدية) ؛ وقبل أن يصل الموكب الرئاسي إلى القصر توقف في مدرسة إعداد الأساتذة والمعلمين، وما أن ترجل موبوتو من السيارة حتى استفسر وسأل بتعجب ولد داداه عن الهدية التي يشكره عليها الشعب الموريتاني ومن أنه قد وصل قبل ساعة إلى نواكشوط وللأسف لا يحمل معه هدايا؛ عندئذ ابتسم الرئيس ولد داداه بابتسامة عريضة وقال: هذه هي هديتك القيمة فبمبلغ ٥ ملايين دولار التي قدمتها لي قبل خمس سنوات بنينا مدرسة لإعداد الأساتذة والمعلمين والتي الشعب في أمسّ الحاجة إليها لكي نحارب الأمية والتخلف والجهل والفقر، فعانقه موبوتو وقال له: إنه لو قُدّر أن يكون باقي الزعماء الأفارقة مثلك لكانت قارتنا لا تعاني من الأمية والجهل والفقر والتخلف، وقال ولد داداه لضيفه: إنني استلم راتباً شهرياً من خزانة الدولة ولا أعمل بلا أجر، وهذه الهدية منك لشعب موريتانيا أما مظهري وهندامي لا يجوز أن يكون من أرقى المحال وبيوت الأزياء العالمية وشعبي يعاني، ولأنه بالعلم يستطيع أن يقضي على الأمية والفقر والمعوقات التي تعرقل مسيرته. انتهت القصة وأنا أقرأ القصة تخيلت المبالغ الفلكية من حصيلة الأموال والمساعدات والمنح التي قُدّمت لبعض الدول التي تئن تحت وطأة الفقر والعوز والحاجة منذ عقود طويلة من الدول الغنية سواء كانت عربية أو أجنبية، وكيف سيكون حالها لو كان من يحكم تلك الدول مثل المختار ولد داداه، ولكنه الواقع المرير الذي يؤكد بأن غالبية هذه المساعدات والمنح لا تُقدّم من أجل الشعوب بل من أجل شراء ذمم وبناء ديكتاتوريات تخدم أنظمة وأجندات ما، وبالتالي فبناء الأوطان وازدهارها واحترام حقوق الشعوب ليست من أولوياتهم. فاصلة أخيرة الفاسدون لن يبنوا وطنا، إنما هم يبنون ذاتهم ويُفسدون أوطانهم ! ( نلسون مانديلا ) [email protected]