14 أكتوبر 2025
تسجيلعلى ذلك الرف يقف ساكناً … يستمع إلى أحاديثهم … همساتهم … تارةً يشعر بفرحهم وتارةً أخرى يُذيب أطرافه حزنهم … يوم مر و يوم حلو … فيبقى صامتاً للأبد … رغم خدش الكلمات لصدره وظهره … لقد جرّحت الحروف جوانبه ، وعلى هوامش وريقاته ذبلت بعض الجُمل بفعل مرور الزمن.. مرّت سنوات على بقائه ساكناً … أبهماً… صامداً … مؤمناً بأنه لن يمسكه ويُلامس أطرافه إلا ذو عقلٍ نيّر مؤمناً بوجود القلم … مؤيداً للحروف الغائرة التي لا يمنعها اقتحام الورق والسيطرة على الصفحات البريئة … هائجةً بعض الجُمل كهيجان البحر وعلى سطحه سفينةً فقدت طريقها … فالصبر أحياناً يكون صعباً على القلم عند مواجهة المحن … الظلم…الاضطهاد … ولا يعرف معنى تأجيل التعبير عن الحزن … فمشاعره الحسّاسة جُبلت على الحديث والتعبير بإطناب ، وليس هناك من يمنعه من ذلك الإطناب سوى البشر عند الكتابة في صفحات الجرائد القليلة … وأما الكتاب فيملكه من كتبه ، يتفنن به لوحده … يجعله عند رأسه ليلاً ، يُلامس وريقاته لوحده فيحتضن حروفه إلى أن يشعر بأنينها … كرائحة القهوة هي الكتابة ، تأسرك عند تذوق مرارتها، خاصةً عند ارتشافها في الصباح الباكر، فتكون أشعة الشمس ساطعة على الكلمات فيصمت الصمت في حضرتها، وريقات الشجر تتساقط على الأرض، هكذا هي الحروف ، تختبئ في أعشاش العصافير الرمادية إلى أن تتطاير في الأفق بفعل نسمات الهواء.يجلس ذلك الكاتب في المقهى كل صباح يقلّب الوريقات الصغيرة … يُعابث فنجان القهوة بإصبعه على الحواف الرقيقة … ويُصدر خلالها رنيناً بخبطات قليلة على تلك الحواف بقلمه مندمجاً بالتفكير فيما سيكتب … يستمع لأصوات الأكواب وهي تتقارع في ذلك المقهى الصغير مختلطةً بسمفونيات موسيقية عذبة منقوشة بعبرات النفوس تُراقص أفكاره وخلجاته، رائحة البن تخترق المكان كما اخترقت رئتيه، يتأمل وجوه مرتادي المقهى علّه يستقي منها حروفاً تتجمع ذات يوم لخلق جملة. خربشات قليلة قد تخرجه من عالم مُفعم بالكآبة إلى عالم آخر ليس به بشر، مجرد حروف تعيش تحت سقف واحد، لا نزاع ولا حروب تصطف معاً لبناء كلمة، فقرة، مقالة، قصة قصيرة، رواية، حروف تتحدث عن كائنات غريبة اسمها بشر، لا تعرف عنهم سوى أنهم في هرْج مستمر، بجانبه كتابٌ لأحدهم بين اللحظة والأخرى يشتم رائحة وريقاته لطالما أدمن رائحة الكتب، يضع رأس القلم على بداية سطور دفتره لتنمو على يديه شجرة ضخمة من الكلمات عند هطول الأفكار من عقله كالمطر. يرتشف قليلاً من قهوته بعد كتابة دفعات قليلة من السطور، وكأنها فواصل قصيرة تجعله يأخذ بها نفساً عميقاً يُعيد بها انتعاش ذاكرته وأفكاره المتواضعة، فتنتشر أبخرة القهوة على عدسة نظارته، باب زجاجي يطل خارج المقهى، شجيرات تتراقص أغصانها مع حركة الهواء، تهدأ قليلاً وكأنها أرواح طافية، يسمع ذلك الكاتب بعض العصافير وهي تُغرد خارج السرب، يتأمل لوحات مُعلقة على جدران المقهى، ملونة بعضها، وأخرى قد اجتاح أعماقها لوني الأبيض والأسود، ذكرّته بحياته التي سيطرت عليها الكتابة، أجواء تُحيط به فيُترجمها إلى عالم كتابي مُترع بشخبطات القلم وسيلان الحروف، إلى أن تتحد وتصبح في صورة كتاب يسكن على ذلك الرف ، صفحته الأولى قد نُقشت عليها آية مُنزلة على خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم : “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ “ . صدق الله العظيم .