14 سبتمبر 2025

تسجيل

قوقعة الشاشة السوداء

23 فبراير 2021

إضاءة: هل يمكنك أن تتخيل وجودك في مكان ما دون هاتفك الجوال؟ حين أكتب أو أقرأ، أو حتى حين أحادث أحدهم في مجلس ما لا أحبذ أن يكون الهاتف أمامي، حيث ينتابني شعور التشتيت من تلك الشاشة السوداء. أشعر مؤخراً بوجود مسافة بيني وبين أي شخص أقابله أو أجلس معه، وكأنه يحيط ذاته بهالة مغلفة من المكالمات والرسائل النصية، ناهيك عن تنبيهات التواصل الاجتماعي والعالم الخارجي. الجميع يعيش في قوقعة الشاشة السوداء، مما يخلق تلك المسافة بينه وبين الآخرين حتى وإن تواجدوا في نفس المكان، أشعر أن هنالك مسافة تفصلنا، وذلك لأن الشخص الذي أمامنا يكون مرتبطا بهذه الشاشة السوداء أكثر من ارتباطه بالموجودين، لذا نلاحظه مهما انغمس في أحاديث مع الموجودين يبقى هنالك جزء منه خارج هذا العالم والمكان، أمر كهذا لم يكن يحدث سابقاً إلا مع المصابين بالشرود الذهني. قبل الطفرة التكنولوجية كنا نجد الجميع حاضراً بجسده وعقله وجميع حواسه في الاجتماعات والمناسبات الاجتماعية، يشارك الجميع في الأحاديث والمناقشات ليكون بحضوره جزءاً من الجلسة، أما بوجود هذه الهواتف نجد لكل شخص لحظات شرود مختلفة فهو لا يستمع لك لأكثر من ١٠ ثوان وإن أكمل دقيقة تركيز معك فأنت إما أن تكون شخصية مثيرة للاهتمام أو أنه يحتاج منك مصلحة ما. فأنا حين أحدث أخي أو أختي وهم يعتبرون الأشخاص الأكثر قرباً لي، أجد نفسي بين خيارين إما أن أتوقف بين دقيقة والثانية نظراً لكثرة التنبيهات التي تردهم، أو أن أستمر في الحديث بالرغم من أن الشخص الذي أمامي قد لا يستمع لربع أو نصف الحديث الذي ذكرته. ولكن ما هو الناتج الذي يمكن أن نتوقعه بعد مرور أكثر من خمسة أو عشرة أعوام على نمط الحياة هذا. ببساطة أستطيع أن أتنبأ بأن الحديث بين الأشخاص سيتوقف، لن تجد شخصا يستمع إليك خارج إطار الحاجة، لذا ستنوء بذاتك لتكتشف أنه قد يمر عليك يوم كامل دون أن تتمكن من اخبار أحد بآخر مستجدات يومك. قد تحتاج الى أن تخبره في رسالة نصية أو عبر أي من وسائل التواصل الاجتماعي ولكن لن تجده حاضراً في نفس اللحظة لتتصل عليه هاتفياً أو لتلتقي به وتخبره بمستجدات يومك، ستصبح الأحاديث المسموعة أمرا خارج الموضة، ستبدو اللقاءات الاجتماعية أمرا قديما لن نلتقي إلا في مكان يوفر لك أجواء تسمح بالتصوير وتقديم ما هو جديد، مكان يسمح لك باستخدام هذا الهاتف أكثر من لحظات جلوسك واستماعك للشخص الذي أمامك. إن هذا الأمر قد يؤدي بنا لفقدان القدرة على الحديث على ربط الأحداث، فنعمة الكلام هي نعمة تساعدك على تشغيل خلايا المخ وربط المواضيع بعضها ببعض للتمكن من الخروج بجملة مفيدة، هذه الممارسة إن قل مستواها على مدار الأعوام القادمة سنجد انتشارا أكبر للأمراض التي تصيب الجهاز العصبي بالخمول والتخدر نتيجة تلقيه لعدد من المعلومات دون القدرة على التفاعل. كم منا قد أخجل أمه أو أباه بالرد على رسالة أو الاطلاع على تنبيه ما، بينما من تعب في التربية يتحدث عن موضوع قد يبدو لك غير مهم ولكنه مهم في نظرهم ويحتاج خلال هذه اللحظة الى استماعك وحضورك الجسدي والذهني الكامل. إن الزيارات العائلية التي تقوم بها بين الحين والآخر وأنت محمل بكم هائل من المسجات التي تود الرد عليها في حضورهم هي زيارات خواء، لا قيمة لها إلا أن تشعرهم بصغر حجمهم وقلة اهتمامك بهم. إنني أنقل لكم تجربة عشتها في عالم النساء، ولا أستطيع أن أعممها على عالم الرجال، ولكني أستطيع أن أقول إن الرجال قد يكونون أوفر حظاً منا، فهم ما زالوا يتجهون للاتصالات واللقاءات أكثر من النساء اللاتي ستجد إحداهن ما زال لديها هاتف يرن. أصبح رنين الهاتف مرتبطا بشخص أو شخصين في اليوم الواحد، فهن يستخدمن الرسائل الصوتية بدل المكالمات والصور التفاعلية بدل اللقاءات، وحتى إن كن متواجدات في نفس المقهى ونفس الطاولة ستجدهن طول الوقت يستعرضن أمورا موجودة على تلك الشاشات السوداء. يقول تشارلز بوكوفسكي: الهاتف صنع للحالات الطارئة فحسب، هؤلاء البشر ليسوا حالات طارئة، إنهم كوارث. [email protected] @shaikhahamadq