16 سبتمبر 2025

تسجيل

صندوق الشيطان

23 فبراير 2020

نشرت جريدة الشرق، بتاريخ 6/2/2020، جزءاً من تقرير صندوق النقد الدولي عن مستقبل النفط والاستدامة المالية يشيد فيه الصندوق بالإجراءات التي تنفذها دول مجلس التعاون الخليجي لتنويع اقتصاداتها لتقليل اعتمادها على النفط. وفي تاريخ 7/2/2020 نشرت جريدة الشرق تحذير الصندوق لدول الخليج العربي من أنها سترى ثرواتها تتلاشى خلال 15 عاماً، مع تراجع الطلب العالمي على النفط وانخفاض الأسعار، وذلك إذا لم تقم بإجراءات أكثر صرامة لإصلاح اقتصاداتها. ويقصد الصندوق بالإجراءات الأكثر صرامة، هو قيام الدول الخليجية "بتكثيف جهودها لزيادة الإيرادات المالية غير النفطية (يعني زيادة الرسوم والضرائب)، والحد من الإنفاق الحكومي، وإعطاء الأولوية للادخار المالي عندما تكون العائدات الاقتصادية على الاستثمارات العامة الإضافية منخفضة" (يعني أكثر تقشفا). وحذر الصندوق من أن تسريع تنويع الاقتصاد لن يكون كافيا، مؤكدا أن العملية يجب أن يرافقها خفض في الإنفاق الحكومي، وفرض ضرائب بشكل موسع. عجيب أمر هذا الصندوق، فهو يدعي أن من أهم أهدافه هو مساعدة الدول النامية والفقيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وإعطائها القروض التي تعينها على تخطي أزماتها المالية، ومشكلاتها الاقتصادية، ولكنه في الحقيقة يجر تلك الدول حتى تقترض منه، ومن ثم يجعلها تحت هيمنته الكاملة، والقيام على ابتزازها، والعمل على مص ثرواتها. ولقد صدق الشعب الأرجنتيني عندما أطلق مسمى "صندوق الشيطان" على صندوق النقد الدولي، لأن هذه التسمية فعلاً لم تأت من فراغ. ألا يعلم القائمون على الصندوق أن تخفيض الرواتب، وفرض الرسوم والضرائب، بشكل موسع سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار، مما سيرفع نسبة التضخم. ومن المعروف أنه متى ما ارتفعت نسبة التضخم فإن القيمة الشرائية للعملة المحلية ستقل، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى مشاكل لا حصر لها، وبخاصة أمام محدودي الدخل. ففرض الضرائب وزيادة الرسوم ستؤدي إلى رفع الأسعار، ومن ثم إلى تقليل الدخل الشخصي المتاح لدى الأفراد، وهذا يعني انخفاض قدرة الشخص على الاستهلاك، أو تآكل مدخراته، مما سيقلل الطلب الكلي على السلع والخدمات. وللأسف نجد أن دول الخليج الأخرى، مع أنها ليست في حاجة للاقتراض من صندوق الشيطان، إلا أنها انساقت لتعليماته، فقامت برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية. فعندما قامت دولة قطر برفع سعر النفط الخام المغذي لمصفاة النفط، قامت مؤسسة قطر للبترول برفع المشتقات على شركة وقود، وبدورها قامت وقود برفع المشتقات البترولية على المستهلكين، وعلى إثر ذلك زادت أسعار السلع والخدمات. وهناك فئة من الناس الله يعلم بحالهم، بحيث إنه في نهاية الشهر ينفد راتبه، ولا يبقى لديه شيء. وعليه، وتبعاً لهذه السياسة، فالغني (التاجر) سيزداد غنىً والفقير (المستهلك) سيزداد فقراً. هذا نوع واحد من "الإصلاحات" التي يلزم بها الصندوق دول الخليج، فما بالك بأنواع الضرائب الأخرى والعديدة التي يطالب بتطبيقها. بل والأصعب من ذلك، فإن الصندوق يطالب الدول الخليجية بتخفيض قيمة الرواتب العامة، التي يرى أنها مرتفعة بالمقارنة مع المعايير الدولية. ومع أن دولة قطر استجابت لمطالب الصندوق بإصدار قانون ضريبة القيمة المضافة، ولكنها فعلت خيراً كبيراً بأنها أرجأت العمل به، في حين أن دول الخليج الأخرى أصدرته وطبقته، مما جعلت شعوبها تعاني الأمرين وخلت أسواقها من المرتادين، وأصبح إعلان الإفلاس للعديد من شركاتها أمراً طبيعياً، وأصبحت البيئة الاستثمارية لديها بيئة طاردة للمستثمر المحلي أو الأجنبي. وخيراً فعل مهاتير محمد عندما رفض مساعدة صندوق النقد الدولي لتخطي الأزمة المالية التي عرفت بأزمة النمور الآسيوية. لقد حاول الصندوق، بكل الطرق، إقناع ماليزيا للاستجابة لتوصياته، ولكن ماليزيا رفضت رفضاً قاطعاً الاستجابة لما يملونه عليها. ولهذا وجدنا، بهذه السياسة، أن ماليزيا خرجت بأقل الخسائر مقارنة بدول أخرى مثل الفلبين، وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا. وكنت، في نهاية التسعينات، قد دعوت المبجل مهاتير محمد للاجتماع مع بعض رجال الأعمال القطريين، وفي فندق إنتركونتيننتال، وقبل الاجتماع، كنت أرتب معه بعض الموضوعات التي سيناقشها، فسألته: لماذا لم تقبل مساعدة صندوق النقد الدولي؟ فرد قائلاً "إن الصندوق ليس مؤسسة عالمية بمعنى الكلمة لأنه يخضع لسيطرة وهيمنة دول معينة، ومن ثم فإن توجهه يخدم، في المقام الأول، مصلحة تلك الدول. وكما هو معروف أن المقترض يخضع للمقرض". لقد تتبعت العديد من أعمال الصندوق، ووجدته قد تسبب بإفلاس الكثير من الدول، مما ضاعف، وبشكل كبير، أعداد الفقراء فيها، عن طريق إجبارها برفع الدعم عن السلع الأساسية، كالخبز مثلاً، بل نال من حجم الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة، وفرض الضرائب، وقام بتحويل مؤسسات وشركات القطاع العام إلى القطاع الخاص، وأصبح هم المواطن في تلك الدول هو الحصول على الغذاء والتعليم، وأن يكون بصحة حتى لا يدفع تكاليف العلاج. وفي الختام نرى أن الدول التي لجأت إلى صندوق النقد الدولي، أو استمعت لنصائحه، لم يحدث فيها لا نمو ولا ازدهار، بل على العكس قد زادت مديونيتها، "وغرقت في مستنقع الفقر أكثر وأكثر". والأكثر خطورة أننا نجد الصندوق أصبح له اليد الطولى في إدارة اقتصاد أي بلد دخل فيه، بما فيها موارده المالية. لقد نجح مهاتير محمد في إدارة أزمة الاقتصاد الماليزي بعيداً عن الصندوق، ونجح بتحويل ماليزيا إلى عملاق اقتصادي دون الحاجة إلى سماع توصيات الصندوق المدمرة. ونحن بدورنا نقول اتقوا الله في عباد الله، ولا تحملوهم ما لا يطاق ولا يحتمل، فالمعيشة صعبة، والأسعار نار، والموارد قد جفت منابعها، وما لنا سوى هذا الراتب المحسودين عليه، والذي يناله القطع والتفتيت من اليمين والشمال. إننا نناجي رب العالمين أن يزيح هذا الكابوس الجاثم فوق صدور، وقلوب المواطنين والمقيمين. والله من وراء القصد ،، [email protected]