17 سبتمبر 2025
تسجيل"فهمتكم" عبارة اشتهرت على لسان الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في الليلة التي سبقت رحيله، في محاولة منه لتهدئة بركان مسيرات الشعب التونسي، لكنها جاءت متأخرة، وهو ما اضطر بن علي للفرار بحثا عن ملاذ آمن يقيه من غضبة الجماهير. لكن ماذا عن الذين لم يفهموا الدرس بعد، رغم استمرار هبوب رياح التغيير السلمي في المنطقة، حيث تتطلع الشعوب إلى الخلاص في لحظة توق فريدة إلى الحرية والعدالة والحياة الكريمة ومنعطف تاريخي للانعتاق من الظلم والاستبداد، والقضاء على الفساد والقلق. جاءت الحقيقة الثانية من مصر.. قال من قال إن مصر ليست تونس بعد أن قررت الجماهير المسالمة النزول إلى الشوارع، لكن الوقائع أثبتت أن سدنة النظام السابق لم يستوعبوا ما فهمه زين العابدين إلا متأخرين جدا مثله فحاق بهم سوء ما حلّ به، استعانوا عبثا بالبلطجية والجمال والبغال والرصاص الحي والمطاطي والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه وسوط الجلاد دون أن يجديهم ذلك نفعا، ولم يؤمنوا حتى اضطر عمر سليمان ليعلن في لحظة بائسة من تاريخه أن مبارك قرر التنحي عن الحكم، والحقيقة غير الخافية على أحد أنه أجبر على ذلك رغما عنه تحت وطأة صيحات " ارحل" المليونية الهادرة المجلجلة لمدة تسعة عشر يوما. ستثبت الأيام والشهور القادمة أن أكثر من سيكون بمفازة من هذه الرياح القادمة بسرعة والتي تستهدف اقتلاع الأنظمة العربية واستبدالها صنفان من أرباب الحكم: قلة نادرة جدا كانت أقرب إلى نبض شعوبها ونيل رضاها حبا وكرامة، وسعت إلى التحديث وتنمية بلادها في السنوات الماضية، وقلة قليلة جدا أخرى تحاول الآن البحث بصدق عن حلول علاجية مستفيدة مما وقع في تونس ومصر قبل أن تصل الرياح إلى عقر دارها، أما البقية الباقية وهم السواد الأعظم فإنهم سيواجهون ما صار يحفظه الصغار ويرددونه على ألسنتهم في عصر الفضائيات والنقل الحي المباشر: "الشعب يريد إسقاط النظام"، عاجلا أم آجلا. أتابع المشهد الليبي بقلق وألم كبيرين فلا أكاد أفهم كيف يمكن أن تصر السلطات الحاكمة على ارتكاب مجازر بحق المدنيين من أبناء شعبها في "بنغازي" ومدن أخرى من خلال الرصاص الحي والقذائف المضادة للطيران بواسطة قوات الأمن والمرتزقة الأفارقة، وتظن أن تكتمها الإعلامي الشديد الذي تفرضه على ما يشهده الشارع الليبي، وحجب خدمات الإنترنت والاتصالات الهاتفية، وقناة الجزيرة، أو ترديد إعلامها لخطاب دعائي عفا عليه الزمن عن اتهام "شبكة أجنبية مندسّة" تسعى لضرب استقرار ليبيا يمكن أن يحجب الحقيقة عن العالم أو أن يجديها نفعا، دون أن تفهم أو تتعظ بما وقع عن ميمنة وميسرة بلادها في الشهرين الماضيين. أما في اليمن فما زال خطاب رأس هرم الدولة مراوغا يقلب الحقائق، ففي خطابه يوم 20 فبراير طالب الشارع في بلاده والمعارضة بالابتعاد عما وصفه " التخريب وقتل النفس المحرمة"، وبهذا المنطق يعتبر حق التظاهر السلمي " تخريبا"، فيما يغض الطرف عما يسمونه هناك بـ " البلاطجة" أو "البلطجية" من رجال أمنه وحزبه الحاكم وما قاموا به من ترويع وعنف ضد المتظاهرين في صنعاء وتعز أو الصحافيين الذين يقومون بواجب التغطية الإعلامية، وفي حين عبر عن أسفه لجرح مجموعة من رجال أمن بلاده في عدن، لم يتأسف لمقتل العشرات من المدنيين في نفس المدينة ولم يأت على ذكرهم. القائمة تطول.. فهذا حاكم عربي آخر اعتبر أن حركة الاحتجاجات لا يمكن أن تصل إلى بلاده بحجة أنه والطبقة الحاكمة " شديدة الالتصاق" بما يؤمن به الشعب ـ في عدائه لإسرائيل أو أمريكا ـ، وعندما سقط النظام المصري اعتبر إعلامه الرسمي أنه سقوط لمسيرة " كامب ديفيد" دون أن يشير إلى الأسباب الداخلية للسقوط من دكتاتورية وقمع وفساد مالي والتي هتف المتظاهرون ضدها وثاروا بسببها، ومدى تشابهها مع كثير مما هو واقع في بلاده، ظنا منه أن الجماهير لا تحسن قراءة المعطيات على الأرض أو عقد المقارنات التي صارت واضحة مثل ضوء الشمس في رابعة النهار. في بلاد لم تهب عليها رياح التغيير بقوة بعد تقوم المعارضة بمخاطبة أنظمة بلادها الآن ـ فيما لا تزال هناك فسحة من وقت ـ ناصحة بضرورة معالجة الأخطاء الكبيرة التي مضى عليها عقود من الزمن ومن أهمها: إطلاق الحريات العامة، وحرية الصحافة والإعلام، وحرية تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإيقاف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، ومحاربة الفسـاد المسـتشـري بالاقتصاد الوطني، وتحسين الأوضاع المعيشية للشعوب، فإذا أصغت هذه الأنظمة إلى نداء العقل والحكمة وقامت بإجراء معالجات جدية وجذرية حقيقية ـ لا شكلية أو هامشية أو دعائية ـ فإن من شأن ذلك نجاتها ونجاة شعوبها حيث يلتقي الجميع في صف وطني متماسك على كلمة سواء لحفظ مصالح البلاد، والعباد ويفتحون معا صفحة جديدة في سفر أوطانهم، وإن أعرضت عن ذلك في لحظة عناد وصلف واستعلاء فلتحجز لنفسها دورا في قائمة الدول التي طالتها يد التغيير السلمي على يد شعوبها، والعاقل من اتعظ بغيره، وإنّ غدا لناظره قريب.