15 سبتمبر 2025
تسجيللا يخفى على المتابعين والمهتمين بقضايا الشرق الأوسط أن معظم الأنظمة العربية في المنطقة داعمة لفكرة تصفية المقاومة الفلسطينية حتى لو ادعت خلاف ذلك عبر تصريحاتها الرسمية، وهي في ذلك تعتقد بأن بقاء المقاومة بعد هذه الحرب سيضعها في ورطة وجودية، لذا فهي ترى بأن السلام والاستقرار في المنطقة يمر عبر تصفية المقاومة والتطبيع الكامل مع إسرائيل، وأن في دعم المقاومة مواجهة صريحة مع الأنظمة الغربية وخصوصًا تلك المهيمنة على المنطقة. لذلك حددت تلك الأنظمة البائسة وجهتها منذ البداية، فهي تدعم صفقة القرن وتشيطن المقاومة وتسير في الفلك الغربي وتتعاون معه على الإثم والعدوان، وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف الذي تعتقد أنه مصيري بالنسبة لكينونتها، وظفت جيوشا من الإعلاميين والدعاة والعلماء والفنانين والمشاهير، يجمعهم حب المال والشهرة، ويتمتعون بضيق الأفق المبرمج مسبقًا في مختبرات الاستبداد الفاسدة، وسخرت لهم وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية لتمرير رسائل الأنظمة وصبغها بالصبغة المناسبة لها زورًا وبهتانًا، ونشطت في بث الباطل وتزييف الحقائق، والإرجاف وشيطنة أهل الحق، وتلميع الفاسقين والمنافقين، كل ذلك في سبيل إضفاء الشرعية على مواقف تلك الأنظمة المشينة من قضايا الأمة المصيرية. ومن المفارقات التي يجب أن نقف عندها، والتي قد تعطي مؤشرًا مظلمًا عن المستقبل السياسي لمنطقتنا بعد هذه الحرب، هي الفجوة التي أظهرتها الحرب على غزة بين ما تؤمن به الشعوب وما يؤمن به الساسة، ففي إحدى دول المنطقة صوت البرلمان بالإجماع على إصدار بيان إدانة بحق «الكيان الصهيوني» على جرائمه ضد أهلنا في غزة، في حين أن إحدى الشخصيات السياسية البارزة في تلك البلد تدين المقاومة وتصفها بأبشع الأوصاف، وهذا وضع لا يدعو للاطمئنان وينم عن تصاعد الاحتقان الداخلي. ولكن ماذا بعد انتهاء هذا الاعتداء الصهيوني البربري، خصوصًا في حال توصل الطرفان إلى اتفاق بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وهو السيناريو الذي يلوح الآن في الأفق، كيف سيكون حال النظام العربي برمته بعد هذا الخذلان لأشقائنا في الدين والعروبة والإنسانية؟، هل ستظل الشعوب تحترم هذه الأنظمة وتثق بها؟ هل تستطيع تلك الأنظمة مواجهة الداخل بعد هذه المواقف الرخوة؟، هل سيعقب هذه الحرب ارتدادات زلزالية في المنطقة على غرار الربيع العربي؟، وهل سيصمد النظام العربي أمامها هذه المرة؟. لقد أسقطت الحرب على غزة من الأقنعة ما يكفي لتعرية النظام العالمي بأسره فضلًا عن النظام العربي العاري أصلًا من المصداقية والثقة والوزن الدولي، نعم لقد سقط الكثير من أقنعة الأنظمة العربية لدرجة يستحيل معها ترميم الصورة مرة أخرى في مخيلة الشعوب، وهنا يكمن التحدي في مواجهة الصحوة السياسية والنضج الوجداني التي خلفتها صدمة هذه الكارثة الإنسانية. ثم من قال إنه في حال انتهت المعركة لصالح الكيان الصهيوني، لا سمح الله، أن الغرب وإسرائيل تحديدًا ستقبل بالنظام العربي الحالي أن يكون شريكًا لها في المنطقة؟، أعتقد بأن أول ما ستفكر فيه إسرائيل، وبدعم وتأييد غربي طبعًا، هو استغلال حالة الهيجان التي تمر بها، لابتزاز النظام العربي المترنح بعد هذه الأزمة، وفرض أجندتها بشكل واضح وعلى رأسها تهجير الفلسطينيين، وتسريع عملية التطبيع الكامل والشامل وغير المشروط، وانتزاع زمام القيادة في الشرق الأوسط، والعمل على تجفيف منابع أي فكر للمقاومة، ولن أكون متشائمًا إذا ما اعتقدت بأن الأمور قد تصل إلى محاسبة الشعوب العربية أفرادا ومؤسسات على موقفها من الحرب على غزة، وستسلم قوائم للأنظمة العربية بالمطلوبين للمحاكمة، مما سيزيد الضغوط على النظام العربي وينذر بتجريده من كل شيء قبل الإجهاز عليه، تحت أي ذريعة، ومن ثم الاستيلاء على المنطقة برمتها لتشكيل شرق أوسط جديد يكون الخاسر الأكبر فيه الأنظمة العربية قبل الشعوب. إن الفرصة الوحيدة التي لازالت مواتية للنظام العربي حتى يخرج من مأزقه هي: أولًا: اتخاذ كافة الإجراءات التي من شأنها وقف الحرب والمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم، وتفعيل كل أوراق الضغط الممكنة على النظام الغربي حتى يستجيب لذلك. ثانيًا: تبني مصفوفة إصلاحات واسعة وشاملة ترتكز على القسط، وكرامة الفرد، والعدل والمساواة، وحرية التعبير المنضبطة بمرجعية المجتمع، ومحاربة الفساد أفقيًا ورأسيًا بكافة أشكاله، وتفعيل قوة القانون على الجميع بلا استثناء. ثالثًا: اتخاذ الإجراءات اللازمة لتشكيل كتلة عربية صلبة تقوم على قاعدة «مصلحة الأمة أولًا»، وتؤسس لتجمع متماسك ومتكامل، يسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي في كل المجالات، ولديه القدرة على المنافسة والدفاع عن نفسه. رابعًا: إنشاء ودعم مراكز البحث العلمي المشتركة، ويكون تركيزها على المجالات الإستراتيجية التي تدعم أمن المنطقة وتنميتها والاستغلال الأمثل لمواردها. خامسًا: إنشاء لجان استشارية عليا من أهل الحل والعقد في كافة المجالات يتم اختيارهم على أسس علمية نزيهة وتوكل إليهم مهمة إعطاء المشورة لمساعدة صنّاع القرار على اتخاذ السيناريو الأمثل للمصلحة العامة وتجنب الاستفراد بالقرار. ومن المتوقع ألا يقبل الغرب بهذا السيناريو الذي قد يعتبره تهديدًا لمصالحه في المنطقة، ولكن على النظام العربي أن يعي وهو يرى بأم عينه عجز «الجيش الذي لا يقهر» ومن خلفه الدعم الغربي اللا محدود عن هزيمة المقاومة الشعبية الباسلة في غزة، أنه لم يبق أمامه سوى خيار الانحياز والُلحمة مع الشعوب العربية وتطلعاتها مهما كان الثمن.