15 سبتمبر 2025
تسجيلوأعود أتساءل وأبحث عن سر الأماكن، ولماذا تسكننا وتحتل مساحة داخلنا، ترفض أن تحررها وتلقيها في عمق النسيان، وكيف يمكننا أن نلغي الماضي بينما يحاصرنا المكان في كل مكان؟ لماذا ومع مرور الوقت تتحول الأماكن الى حصار من الذكرى تفرض نفسها، يصعب علينا تغييبها أو تجاهلها؟ تأخذنا لها الصدفة أحيانا، وأحيانا نبحث ونعود للأماكن التي كانت جزءا من حياتنا حلوها ومرها، يشدنا الحنين اليها، فان لسعتنا ذكراها نقرر أن لن نعود، لكننا ما نلبث مرة أخرى أن نعود اليها عند عودة الحنين. لماذا لا نراها صامتة كما هي، وانما تبقى الأماكن حية فينا مهما غادرنا أصحابها، تعيد لنا نفس النسمة، نفس الوجوه ونفس الطعم، وتزكم أنوفنا بنفس الرائحة، وتعيد لنا شريط الأحاديث. لماذا تبقى شاخصة حاضرة في الشعور واللاشعور؟ وعجبا كيف تحس فينا وتشاركنا مشاعرنا. لا شك أن حبنا لبعض الأماكن وارتباطنا بها وذكرياتنا التي نسجت نفسها فيها، هو ما يبعث في جماداتها نبض الحياة، فيجعلها حية فينا تعيد لنا كل ما مضى. وأذكر احدى صديقاتي التي كانت دائما ما تعود وتحوم حول السدرة التي كانت تتوسط فناء منزلهم، وكانت تجلس تحتها مع جدتها وهي تسوي ظفائرها، وتشرب القهوة وتتحدث مع الجارات، يجلسن على البساط الذي تفرشه تحتها، فقد كانت هذه السدرة جزءا من طفولتها ومن علاقتها بجدتها التي لا تنساها أبدا؟ والغريب أن ذلك المنزل القديم قد هدم منذ سنوات، الا أن السدرة ما زالت تقف بين مجموعة من أشجار المنازل في نفس المنطقة، ومع انهم أصبحوا في ساحة كبيرة واحدة، الا انها مازالت تعرف سدرة جدتها، وتشعر أنها تعرفها هي أيضا حين تعود اليها فتعيد لها ذكريات جميلة ولت. أما اذا قصدت البحر على شاطئ الشمال، المكان الذي كثيرا ما رافقت أبي اليه، عجبا كيف يبعث لي الهواء رائحة نفس النسمة، وأشعر بعمق بطعم الشاي الممزوج بحبات الهيل الذي كان يعده لنا أبي، ويعيد لي المكان صفحة واضحة بالصوت والصورة لأيام مرت بي منذ سنوات طويلة. وعندما مررت في الطريق المؤدي الى بيتنا في القاهرة، الذي طالما أحب أبي شرفته التي جمعتنا يوما وضجت بصخبنا وأحاديثنا وضحكاتنا، كنت أرى الحزن الذي في داخلي في عيون الناس ووجوههم، وأرى المطر الذي كان يهطل في تلك اللحظات، وكأنه دموع الشارع الذي أصر على أن يشاركني حزني ودموعي، فلسنا نحن، وانما حتى الشوارع والأماكن تبكي وتفتقد من غاب. قرأت وما أكثر ما قرأت عن ارتباط الانسان بالمكان، والذي يثبت بأن الانسان لا يستطيع أبدا أن يفصل سلسلة الماضي عن حاضر حياته. انه العشق الذي تتوارثه الأجيال، عشق الأماكن الذي يتأصل فينا مع مرور الزمن، يشدنا ويؤثر فينا رغما عنا، ويحول لنا كل الذكريات حلوها ومرها الى شعور واحد، وهو الحزن والأسف على رحيل كل تلك الأيام. فالمنزل والغرفة، والمقعد الذي نرفض أن نغير مكانه، الخزانة الخشبية والمدفأة، البحر والبر والشارع.،هي نفس الأماكن التي تجعلنا نتعلق بها مع مرور الوقت، ونشتاق اليها. ومهما كانت الذكرى، ومهما كان الحزن فينا، لنستعذب لحظة المكان، ونعيش حياتها، ونلبي نداءها، لتعيد لنا أغلى الذكريات، نعود لها، ولا نكف أبدا عن.. عشق الأماكن. [email protected]