17 سبتمبر 2025
تسجيليترافق العمل المؤسسي المحوكم مع قواعد وأسس معيارية لتصنيف وتنظيم وترتيب كافة الجوانب المتعلقة بذلك العمل، لاسيما في وضع المعايير المتعلقة بتسكين الوظائف وتقييم وتأهيل الموظفين والاعتبارات المرتبطة بالمؤهلات وكفاءة حامليها، الأمر الذي يشكل تحديا كبيرا أمام الفروقات الشخصية والاختلافات الفردية والاستثناءات الظرفية. كما أن فهم واستيعاب نظام العمل المؤسسي قد يؤدي احياناً إلى استغلاله والالتفاف عليه وتلبية متطلباته الشكلية، بما يتوافق مع مصالح الأفراد دون النظر لمصلحة المؤسسة وهو ما يتنافى مع مفهوم الحوكمة. على أرض الواقع يتم تقييم شاغلي الوظائف العامة وفق معايير تستند في أساسها على المؤهل الأكاديمي والدرجة العلمية، الأمر الذي يعد بديهيا في ظل صعوبة تقييم الأفراد وفق معايير تستند للمهارات والخبرات والسمات الشخصية، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ضخامة العينة موضع التقييم وحجم المؤسسات وتعقيداتها الهيكلية، كما أن لتلك القواعد في التقييم جانبا إيجابيا يتمثل في حماية الموظف من تبعات الشخصانية وتحقق له الأمن الوظيفي المنشود. في الوقت ذاته فإن لهذا المسلك، وكما لغيره، جانبا سلبيا يتلخص في أن تقييم المؤهلات قد يتم بالارتكان إلى قوانين وقرارات مضى على تشريعها وإصدارها ما يتجاوز الربع قرن، ما يمثل تحدياً أمام سرعة المتغيرات من حولنا، فضلا عن سلبيات أخرى، منها السعي الحثيث من قبل شاغلي الوظائف أو الباحثين عن عمل للحصول على مؤهل دون النظر في كفاءة المؤسسة التعليمية من جهة، وإغفال جانب تنمية المهارات والخبرات الذاتية من جهة أخرى، ناهيك عن الإشكالية التي بدأت تطفو على السطح في عدد من الدول كتزوير المؤهلات وشراء الشهادات وما يترتب على ذلك من مشكلات جسام. خلال أزمة كورونا الراهنة، لجأ العالم أجمع للدراسة عن بعد وللتعليم المنزلي، كضرورة حتمية واستجابة سريعة لمتطلبات الأمر الواقع، ومع أن الوقت ما زال مبكرا لتقييم التجربة والحكم عليها بالنجاح أو الفشل، ولكن ما يثير الانتباه هنا هو مدى تجاوبنا مع المتغيرات وتطويع التكنولوجيا لخدمة الأهداف التنموية عبر الاستجابة للمتطلبات الظرفية الملحة. والسؤال الذي يتبلور هنا هو: لماذا لم ننتقل تدريجيا إلى تطويع التكنولوجيا كخيار استراتيجي بما يتوافق مع أهدافنا دون الارتهان للظروف الوقتية، سواء في الجانب التعليمي من جهة - وهو موضوعنا هنا - أو في كافة جوانب التحول الرقمي؟. صحيح أننا قطعنا أشواطا في هذا المضمار، بيد أن التجربة أثبتت أن هناك تفاوتا في الأداء بين جهة وأخرى، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن دخول الانترنت إلى منطقتنا كان في منتصف التسعينات، ما يجعل سقف التوقعات يتجاوز الواقع. إن الاشكالية القديمة المتجددة التي تواجه معادلة المؤهلات العلمية واعتماد الشهادت الجامعية المتحصل عليها عبر التعليم عن بعد أو التعليم الإلكتروني أو التعليم المفتوح، سمه ما شئت، كانت وما زالت تنبع من الاعتقاد الراسخ بعدم أهلية وكفاءة الخريجين من البرامج التعليمية المذكورة بسبب الاعتقاد بضعف مخرجات تلك الأساليب والطرق في تلقي المعارف. وعلى الرغم من أن تلك الأساليب الحديثة آخذة في النمو والتزايد في كافة أقطار العالم حتى باتت معتمدة ومعترفا بها من قبل كبرى الجامعات عالميا، ظل البعض مصرا وثابتا على ذلك الموقف المتصلب ضد هذا النوع من التعليم. والآن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد أصبح التعليم عن بعد أمرا واقعاً بعد ما أجبرتنا الظروف الراهنة وغير المتوقعة إلى اللجوء له باعتباره خيارا وحيدا لاستكمال التعليم، ليس على مستوى المراحل الجامعية وحسب، بل في المراحل التأسيسية أيضا. إن الطريقة التي نتعامل بها مع المؤهلات الجامعية والحاصلين عليها تمثل هاجسا لنا، وتثبت لنا اننا غير متوافقين مع المفاهيم الحديثة في التعامل مع الإنسان وإمكانياته، واننا مستمرون في تبني النظرة التقليدية التي تكاد تختزل الإنسان في كونه رقما وظيفيا أو مؤهلا أكاديميا أو مجموعا تراكميا. إن المفاهيم الحديثة للموارد البشرية ترتقي بالإنسان إلى ما هو أكبر من تلك الاختزالات في التقييم، وتعتبره موردا وثروة وعنصرا أساسيا في بناء المجتمع طبقا لقدراته وامكانياته، بغض النظر عن الطريقة التي حصل بها على درجته العلمية. مؤخراً أقرت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية جديدة للتوظيف ترتكز على النظر في المهارات الشخصية بدل الشهادات الجامعية، بالتشجيع على إعطاء الأولوية للمهارات الوظيفية، دون الغاء تأثير الحصول على المؤهل في حظوظ التوظيف، ولكنه يجعل المؤهل أقل أهمية في مقابل المهارات. والسؤال المطروح هنا، هل يمكننا اعتبار تلك الخطوة التي صدرت عن أكبر الدول اقتصادا وقوة، صحيحة أم خاطئة؟ ولنسأل أنفسنا قبل الإجابة.. هل ينبغي علينا التطلع إلى تجارب الآخرين دون أن يكون لنا إسهام في تجربة رائدة تتماشى مع طموحاتنا ورؤيتنا فيما يتعلق بحسن استغلال الموارد البشرية وتطوير المنظومة التعليمية؟. لماذا يتوجب علينا دائما الأخذ بتجارب الآخرين واعتبار خلاصات تجاربهم معيارا قياسيا لنا لا يقبل التعديل ونطبقه حرفيا؟. لماذا لا نبادر نحن بإصلاح منظوماتنا سواء التعليمية أو الإدارية أو التقييمية، وفق متطلباتنا وخبراتنا التجريبية واحتياجاتنا التنموية؟. لا عيب في استقاء الخبرات من الآخرين والبناء على تجاربهم الناجحة، بل ان ذلك يعد سبباً من أسباب تحقيق النمو والازدها، ولكن وعلى الجانب الآخر، لماذا ننتظر خوض الآخرين التجربة لنخوض خلفهم ونضع المعايير الاكاديمية والأنظمة الدولية في التعليم موضع التقديس وكأنها صنم معرفي يأبى أن يتزحزح من مخيلتنا؟. لماذا لا نكون نحن مصدر التجارب الملهمة التي يقتدي بها الآخرون؟ إن إعلاءنا وانبهارنا المبالغ فيه بالجامعات الغربية وشروطها ومعاييرها في القبول قد يخدعنا ويؤثر على تقييمنا للطاقات البشرية وحسن استغلالها، فكم من شخص طابق المعايير الأكاديمية لأعرق الجامعات دون أن يحقق الحد الأدنى من التزاماته الوظيفية؟ وفي المقابل كم من موظف قد تعكس سيرته الذاتية هشاشة وضعفا وفق معاييرنا الحالية، ورغم ذلك فهو على أرض الواقع يقدم لوطنه ولأفراد مجتمعه الكثير مما لا يدرّس في أعرق الجامعات، ولكنه يقبع خلف مكتبه عاجزا عن تسلق السلم الوظيفي كغيره لأن سيرته الذاتية غير منمقة ولا تلبي المعايير المطلوبة لارتقاء ذلك السلم. ينبغي الوقوف على هذه المسألة بموضوعية، كما أنه لا بد لنا قبل الخوض فيها أن نفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فالعلوم الطبيعية لها متطلبات تختلف اختلافا كليا عن متطلبات العلوم الانسانية، وعلى سبيل الايضاح فإنه من الاستحالة بمكان لمن أراد ممارسة الجراحة أن يتلقى التدريبات التطبيقية عن بعد أو عن طريق التعليم المنزلي، وفي مقابل ذلك إذا ما افترضنا أن موظفاً قد اصطدم بمتطلبات ارتقاء السلم الوظيفي وأراد مواصلة دراسته في التخصص الذي يعمل به في فرع من فروع العلوم الإنسانية، فإنه لا محالة سيواجه ويصطدم بمتطلبات صعبة وقاسية، والسؤال هنا، ماذا سيستفيد الموظف الذي أراد مواصلة دراسته في تخصص الإعلام مثلا، من تسكعه في أزقة القاهرة أو عمّان، فقط ليلبي متطلبات معادلة المؤهل، وهل سيساعده ذلك في زيادة استيعابه لنظريات الإعلام والاتصال؟ وماذا سيقدم لجهة عمله وهو يمدد الإجازة تلو الأخرى؟ ليثبت فقط انه "طالب نظامي" إذا ما قورن بالموظف الذي يواصل تحصيله الأكاديمي وهو على رأس عمله، ويتلقى نفس المادة العلمية غير أنه "مخالف للأنظمة والقوانين" وبالتالي لن يلبي المتطلبات لمعادلة شهادته، وسيظل معلقا لا إلى الأرض ولا إلى السماء مربوطا بقرار وتوقيع ينتشله من وضع إلى آخر. لقد أقرت محكمة التمييز الموقرة في حكمها الصادر في مارس من العام الماضي قاعدة مهمة تتعلق بمعادلة الشهادات الأكاديمية ومستوى الجامعة المانحة للمؤهل "دون أن يكون هناك أثر لنظام التعليم المتبع في الجامعة مصدرة الشهادة سواء أكان بنظام التعليم المفتوح أو بنظام الحضور ما دام المشرع لم يحظر الاعتداد بنظام تعليمي معين، والعبرة بالقيمة العلمية للشهادة دون النظام التعليمي المتبع في الجامعة"، كما أوجبت المحكمة تسبيب قرار رفض معادلة الشهادة وأن تُضمن الأسباب صلب القرار. إن هذا القرار يعطينا مؤشرا واضحا على أهمية إعادة النظر ليس بمعالجة الإشكاليات بصورة فردية، ليضطر كل متضرر للجوء إلى القضاء ليحصل على حكم ينصفه، بل إنه يتوجب علينا المواجهة الشجاعة والجريئة لتلك القضية، وإعادة النظر في آليات تقييمنا للإمكانيات والطاقات البشرية لنحسن استغلالها بدل ان تذهب الطاقات الشبابية سدى، وألا ندع من لم تسمح له ظروفه بارتياد أعرق الجامعات لمواجهة مصيره وحيدا يلازمه الشعور بالغبن أمام رفض حصوله على التفرغ لمواصلة تحصيله الأكاديمي وتحسين وضعه الوظيفي نظراً "لحاجة العمل له" في مقابل تفريغ من " لايمثلون أي إضافة أو أهمية لعملهم" والسماح لهم بتحقيق النجاح الوظيفي وارتقاء السلم بكل يسر، وحتى لا يتحرر من حصل على مؤهل معتد به من التزاماته الوظيفية ويكتفي بما حققه في مسيرته دون شعوره للحاجة لتطوير إمكانياته، وحتى لا نطمس الخبرات ونهمش أصحابها. إن الأهداف التنموية والغايات القانونية التي أقرت من أجلها القوانين، تحتم علينا التعامل مع الواقع بمرونة أكبر للوصول إلى الهدف. يجب أن نضع أهدافنا نصب أعيننا ونبحث عن أفضل الطرق للوصول لها، فنحن نريد العنب ولا شأن لنا بالناطور، ينبغي لنا إذا ما أردنا تحقيق غايات التنمية من تنمية الإنسان وتعزيز قدراته أولا، وذلك بألا نعتبر من لم يوفق في تعليمه أو تحصيله الدراسي أو لم تسعفه الظروف لمواصلة مشواره الأكاديمي فاشلا، فيتماهى هو مع نظرة المجتمع ويتوافق مع توقعاته، فالأوطان لا تبنى الا بسواعد ابنائها، والنجاح يجب أن يكون له أكثر من طريق. فبجانب حاجتنا للطبيب والمهندس فنحن أيضاً بحاجة للعامل والفني وصاحب الموهبة التي لا تدرس في الجامعات ولا تكتب في الكتب. ينبغي أن تتعدد طرق النجاح وأن تتسع القوانين والأنظمة وتعدل لتنصف كل صاحب مجهود، وأن توضع الخبرة والمعرفة والتفاني فوق الأوراق المصدقة والمختومة حتى لا يصبح المؤهل غاية بدلا من أن يكون وسيلة.