20 سبتمبر 2025
تسجيلترك جمال خاشقجي خلفه «الخاشقجية» كظاهرة صحفية في منطقتنا الخليجية بالذات، ظاهرة الصحفي الإنسان المقاوم الذي لا يبرر سبب وجوده سوى مقاومته للظلم والاستبداد، احتكر موته الأصلي لا يمثله أحد غيره وحوّله إلى مشهد كارثي لا يستطيع أن يفلت معه أي ظالم أو أي نظام متلوّن يتاجر بالإنسان. خاشقجي هو أول صحفي خليجي، وربما عربي، يذهب إلى حتفه بقناعاته الشخصية مع توفر جميع إمكانيات الخروج الآمن الذي يحفظ له شهرته ومكانته، وربما هو الأخير في ذلك، يطرح ملامح الصحفي الأخير في مجتمع يضج بالصحفيين المنتمين إلى تيار الحياة، بصفتها وجهة نظر السلطة والمستبد. موت خاشقجي بهذه الصورة التراجيدية أنتج «خاشقجية» ربما هي المستقبل لأبناء هذه المنطقة للانتقال بالسلطة من العالم اللاهوتي الديني إلى العالم التاريخي الإنساني. المثقف بصفة عامة في مجتمعاتنا مثقف ديني لاهوتي يرى في السلطة ديناً وفي المستبد وثناً، هذه القيامة التي أقامها خاشقجي بموته هي انبثاق للخاشقجية التي سوف تنقل الثقافة لدينا من الحالة الدينية اللاهوتيه إلى الحالة الوضعية البشرية الإنسانية. فنحن أمام صور متعددة للمثقف الأخير في مجتمعاتنا وفقاً لدرجة حضور الوعي وأنماط هذا الوعي، لكن «الخاشقجية» طرحت سلاح المقاومة بالنقد البناء وليس بحمل السلاح أو إثارة الفوضى، أدركت الخاشقجية ممثلة في الصحفي الراحل أن مجتمعاتنا في أزمة لا يشعر بها فقط الفقير والمغبون، بل حتى المثقف المقرب والصحفي البارز، مثل هذا الوعي يغيب عن كثير من المثقفين والصحفيين في مجتمعاتنا، طالما هم في عيش رغيد مع الاستبداد، فهم لا يشعرون بالمستقبل، وبالكاد يشعرون بالإنسان كقيمة، بغض النظر عن أنماط وجوده. أحدث جمال خاشقجي قطعاً مع هذا النمط من الصحفي والمثقف المنعّم الذي يعيش بذخاً، لكن يعاني صراعاً مع ضميره ويؤلمه ما يحدث في بلاده من هضم للحريات وتضييق على الرأي الحر. الخاشقجية هي عودة إلى الأصل، أصل الإنسان الذي يشعر والمثقف العضوي، كلنا في مرحلة ما قبل الخاشقجية طالما نعيش في تضاد مع ضمائرنا، طالما نسوغ الاستبداد. هذه القيامة التي أحدثها موت جمال خاشقجي ليست سوى معنى جديد للشهادة، ليس في معركة قتال، ولكن في معركة حرية ضمير، هو طراز من المثقفين الواقفين على شفا حفرة بين حب الوطن وبين الإخلاص لقيادته بنصحها لا بنفاقها والتزلف إليها ضد قناعاته. ذهب جمال خاشقجي، لكن الخاشقجية باقية، لم يكن جمال معارضاً أو شتاماً أو مهرجاً، نادى من أعلى منبر متمدن في الصحافة العالمية بأنه يخشى على وطنه من الاستبداد وبأن الإصلاح يمر من خلال الإنسان، لا من فوق جثته، أعتقد أن القاتل قد خدم خاشقجي، حيث قتله جسداً لتحيا «الخاشقجية» رمزاً. [email protected]