15 سبتمبر 2025
تسجيلفي دنيا الصَيارِفة، العملةُ الجيدةُ تطرد العملةَ الرديئة، والشأنُ في دنيا الناس على العكس، فقد تجتمع العملةُ الرديئة على طرد العملةِ الجيدة، وتصبح القيمةُ لكل شيء مزيف، لكن مهلاً فالكوارث لا تأتي فجأة، بل يسبقها سلسلة طويلة من الصغائر هي أشبه بالأعراض لأمراض لم تعالج في وقتها وعندها تنزل المصائب مجتمعة. إن التعليم هو عملية مخاض مستمرة ما لم يتم تعهدها بالرعاية الصادقة قد تسفر عن مولود مشوه، وبعض التعليم كالحمل الكاذب لا يسفر عن شيء سوى حَمَلَةِ شهاداتٍ بلا مضمون، والدليل على أن التعليم يتحكم في حاضر الأمة ويحتكر مستقبلها، هو أن أثر المعلم على المتعلم أمر لا ريب فيه، فخطأ المعلم أعظم من خطأ الطبيب، إذ خطأ الطبيب يُجْبَرُ، فإنْ بالغَ في الخطأ يعاقب وخطأه يدفن في الأرض، أما خطأ المعلم فيكبر ليصبح كارثة تمشي على الأرض، إن خطر التعليم الذي يهدف إلى مراكمة الدرجات وإصدار الشهادات هو أنه يُصَدِّر لأبنائنا وعياً بأنهم موظفون محتملون لا أكثر، في انتظار شحنهم لأسواق العمل، وخطورة هذه الفلسفة الشائهة هو تحويل الإنسان إلى عبد للأدوات التي صنعها، في وضع مقلوب، فالإنسان هو خالق الوظائف، فكيف يصير عبداً لها؟ مثل هذا التعليم يُخَرِّج أنصافَ متعلمين، وهم أخطر على أي مجتمع من الأمية المحضة هل سمعتم بأُميٍّ واحد في صفوف داعش؟ فلا يزال المُمَحَّضُون بالأمية أرقَ قلباً من أنصاف المتعلمين. جوهر التعليم تحرير إنسانية الإنسان؛ ليصبح إنساناً ثم طبيباً، إنساناً ثم قاضياً إنساناً ثم صحفياً وأي شيء آخر، من هنا تصلح الحياة أو تفسد، فالقاضي الفاسد والتاجر الغشاش ثمرة تعليم يهتم بالمنهج على حساب المنهجية وبالشهادات على حساب المضمون، المنهجية أبقى من المنهج والتشبع بحكمة العلم أهم من استظهار المعلومة، فالمنهجية تَعْرِفُ وتعترف بأن الفشل في سبيل النجاح نجاح، وهذا هو الفرق بين شخصين أحدهما يستظهر ألف معلومة بلا حكمة وآخر يستنبط ألف حكمة من معلومة واحدة، بهذه المنهجية خرج مالك بن أنس عالم المدينة بمدرسته، وألبرت أينشتاين بالنظرية النسبية، ونيلز بور بميكانيكا الكم، خرجوا من رحم الفشل إلى آفاق النجاح، فالمنهجية تجمع المُفرَّق وتحلل المركب وتقرب البعيد وتوائم بين المختلفات وتميز بين المتشابهات، وهذا منهج القرآن حين يأخذ بيدك رويداً دون أن تشعر إلى عالمه الفسيح، فبينما هو يحدثك عن التوحيد، إذ به يعرج بك إلى عالم النجوم والكواكب وينزل بك من فوره إلى عالم الأرض والحيوان، يُطلعك على شؤون سكان السماء وأحوال أهل الأرض في لمحة واحدة دون أن تشعر ببعد المسافة ليدلف بك من وراء ذلك إلى أعماق نفسك، وخطأ الذين اتخذوا القرآن عِضِين كخطإ الذين اتخذوا الحياة أجزاءً مقسمة، والتعليمَ تخصصاتٍ مبتوتةَ الصلة بينها وبين المصدر الذي يَلْضِمُها في خيط واحد، فمُعلم الهندسة مدين في تبيين حقائق هذا العلم لمعلم الأحياء، فمن النحل والفراش وغيرها تعلمنا الأشكال الهندسية ومن (القُنْدُس) تعلمنا قانون توزيع الأحمال ليعانق الإنسانُ السحاب عبر ناطحاته ومن الأفعى والضواري تعلمنا فنون الدفاع عن النفس، وهكذا يصبح مُعَلِّمُ الدِّين مديناً للكل ودائناً لهم، وهكذا تتكاتف العلوم ولا تتناكف فعلم الحساب كعلم اللغات، فالحساب لغة الله بالأرقام. يقول البروفيسور نعوم تشومسكي: إن الطالب في عملية التعليم يجب ألا يُنظر إليه على أنه وعاء يُملأ بشيءٍ ما، ولكن باعتباره وردة يجب أن تُعان لتنموَ بنفسها.