31 أكتوبر 2025
تسجيلفي جو أسري تسوده الرحمة والود والطمأنينة جلست "منيرة" والتي أصبحت على مشارف عقدها الستين بعد حياة علمية وعملية طويلة، كانت هي الأم والمربية الفاضلة والأخت الكبرى والقدوة لإخوانها الستة وأخواتها الخمس، الذين تعلموا منها الكثير، وبين والديهم جلس الجميع في انسجام عائلي تام، يتحدثون ويتحاورون ويتجاذبون أطراف الحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل. وبدون أي مقدمات وفي لحظة كان قد خيم نوع من الصمت في مجلسهم، قالت منيرة موجهةً الحديث لأبيها الذي أعاقه المرض عن الحركة، ولكنه ما زال يتمتع بصحة عقلية ونفسية عالية لم تؤثر عليها أوجاعه وآلامه. قالت وهي تبتسم ابتسامة المحب لوالديه: "يبه شرايك ارشح نفسي لانتخابات مجلس الشورى، أنا الحين متقاعدة والحمدلله لا تنقصني لا خبرة ولا علم". ما إن طرحت منيرة تساؤلها على أبيها حتى سمعت صوتاً أشبه بصوت عويل ونحيب الناقة "الخلوج" وهو اسم للناقة التي فقدت وليدها، سمعت هذا الصوت الذي أطلقته أمها قائلةً: "يا ويلي يا ويلاه يا منور "تصغير اسم منيرة".. تبغين تناطحين الرياييل وشتبين فيهم، خلي ذا السوالف للرياييل". التفت الجميع إلى منيرة وقد علت وجوههم علامات جمعت بين الحيرة والاستغراب والغضب، ماعدا سالم الأخ الأصغر الذي درس وتخرج من إحدى الدول الغربية، ويبدو أنه كان مسروراً بما سمع، فقال أصغرهم: "يمه شفيها اذا منيرة رشحت نفسها للانتخابات عادي، أكوه فيه (كلمة عامية لها معانٍ مختلفة واستخدمت هنا بمعى هناك يوجد) وزيرات ومديرات ومسؤولات في الدولة نفتخر ونعتز فيهم، فعطوها فرصة تمارس حقوقها جيزها من جيز غيرها". ردت الأم بغضب "عطاك الله شري في ملت زري (دعوه قديمة لم يعد لها ذكر إلا عند عجايز أهل قطر, والشري هو الحنظل). ما خبرنا بناتنا إلا حشيمات ومستورات، وش ذا الفنتك الجديد اللي ما خبرناه ولا هو من سلومنا"، وما إن انتهت الأم من معارضتها على كلام منيرة وأصغر الأبناء، حتى نزل الأخ الأكبر لميدان النقاش قائلا: "سلوم (تصغير اسم سالم)، انطم واسكت، وخل عنك سوالف وأفكار الانجليز اللي في مخك، احنا ماعندنا بنات يرشحون نفسهم، يعني ترضى يعايرونك الناس بأن اختك حاطه صورها في كل مكان وتجتمع مع الرياييل". لم يرد سالم على أخيه الكبير واكتفى بالتأفف فقط. تشجع باقي الأخوة والأخوات في الإدلاء بدلائهم في هذا الموضوع المصيري في تاريخ أسرتهم، واستمرت الحوارات والمناوشات الكلامية بين أفراد العائلة والذين انقسموا إلى قسمين؛ قسمٌ تتزعمه الأم وعدد من الأبناء يعارضون ويشجبون ويستنكرون الفكرة، وقسم آخر ضم الأخ الأصغر والأخوات يؤيدون ويدعمون فكرة ممارسة المرأة لحقها الانتخابي. وبين هؤلاء وأولئك، وقف الأب صامتاً لم يُـبدِ رأيه، وإنما اكتفى بالاستماع والإنصات لما يجري حوله. احتدم الجدال بين الطرفين فكل يدعم حجته، إما بالحديث عن القيم والمبادئ و(السنع) والعادات والتقاليد والأعراف، وإما بالدين والشرع والواقع، وتقريبا كلهم استخدموا جميع وسائل الإقناع المعروفة وغير المعروفة لدى الكائنات البشرية منذ القدم، ولم يخلُ هذا النقاش الديمقراطي من الدعابات والمشاكسات و(المعاياه) فيما بينهم. وبعد مضي وقت ليس بقصير التزمت منيرة الصمت في معظمه. قالت لهم "يا يمه ويا اخواني وخواتي احنا كلنا تكلمنا وقلنا اللي في خاطرنا، وأبوي ما تكلم ولا قال شي"، والتفتت منيرة إلى أبيها وقالت: "يبه انت شرايك واللي بتأمر به على راسي من فوق، وأنا عصاك اللي ما تعصاك.. شرايك في موضوع ترشحي للانتخابات"؟ قال الأب بصوت علاه آهات الزمن وآلام المرض: "يابنتي يقولون الأولين الحقوق تبغي لها حلوق، واللي يبغي يصير عضو مجلس ملزوم أنه يراكض ويسعى في مصالح الناس لأنهم رادين الشأن فيه، وإن قصر أو ما قدر يخلص لهم معاملاتهم كلت وجهه الناس واحدن بيمدحه واحدن بيسبه، وانتي وغيرج من بنات قطر كلكم كفوا والنعم فيكم, لكن لازم كلن يراعي خواطر اللي حواليه، فيه ناس يرضون لبناتهم أنهم يمارسون حقوقهم اللي شرعها القانون وحفظها الدستور، وناس ما يرضون على بناتهم أنهم يرشحون نفسهم ويطلعون في الإعلام ويصير ذكرهم على ألسنة الناس، وكل طرف له مبرراته، ولا نقدر نقول هذولا صح وذيلاك غلط، كلهم صح وعلى قولت شيبانا من لا يقيس قبل يغيص، ما ينفع القوس عقب الغرق". انتهى الحوار العائلي الذي دار بين منيرة وذويها ولعل كلام الأب وضع النقط على الحروف بالنسبة لمنيرة، فهو لم يمانع أو يوافق وإنما ترك حرية الاختيار لها، ولكن قبل أن تتخذ قرارها عليها أن تدرس أبعاد هذا القرارعلى مجتمعها العائلي الذي تعيش فيه. وفي الختام أقول: "بـــدون تــعــلــيـــق". @drAliAlnaimi