12 سبتمبر 2025

تسجيل

حُمَّى التسوق والاستهلاك وإهدار الموارد

22 أغسطس 2018

لكل حضارة دين ودين حضارتنا المعاصرة "الاستهلاك"، لقد بات الاستهلاك أكثر أديان المعمورة اتباعاً، إذِ اجتاح المجتمعات كحمى سرعان ما تطورت إلى جنون، ليصبح في نهاية المطاف ديناً لا يَعِد أتباعه بالخلود، وإنما يقذف بهم في قعر الجحيم، فالوقوع في عبودية الاستهلاك هو الطريق المعبد نحو الهلاك، وكلما زادت المجمَّعات في بلد اضمحلت المجتمعات، فزيادة الترف في أمة يغريها بالكسل والكسل يزيد من فراغ النفس وفراغ النفس يوقظ الرغبة في الاستهلاك بحثا عن قيمة موهومة وكمالات زائفة، وينسي هؤلاء أن في النفس ثقباً لا يسده الإ الله، لقد بلغت حضارتنا الحديثة مداها من الانحطاط حين بشرت بالسعادة الزائفة ورفعت شعار"التسوق متعة والاستهلاك علاج"، وعندما تصاب المجتمعات بالاستهلاك اللا إرادي تبدأ الحضارة في الأفول. إذا كان القرض ضرورة، فالضرورة لا تستحق احتراماً إلا حين تقدر بقدرها، فكل قرض يستدينه المرء من أجل تحقيق ترف زائد هو سلوكٌ أرعن ينم عن سفه وانعدام مسؤولية، لقد أصبح القرض هو السلوك الشائع للأفراد والمجتمعات والحكومات، حتى أصبح الاقتصاد العالمي يوصف اليوم بأنه اقتصاد الدَّين بامتياز. يرى قادة العالم اليوم أن أفضل وسيلة للتحكم في الشعوب تكون بمخاطبة رغباتهم عبر ضخ مزيد من السلع في منظومة إنتاج لا تتوقف لتحفيز رغبات لا تنتهي، وهكذا يتم استعباد الشعوب استعبادا نظيفاً يخلو من صور الاضطهاد التي كانت تلازم الاستعباد القديم إنها عبودية بشياكة تلك هي "العبودية المختارة" حين تقررها المجتمعات بإرادتها. نعم إنها إرادة لا واعية، لكن المسؤول عن غيبة الوعي هو صاحب القرار حين قرر أن يُستعبد، تماماً كمسؤلية السكران حين قرر أن يغتال وعيه، وهنا يبرز المتهم الثاني في القضية، وهو الآلة الإعلامية التي وجهت مدافعها نحو وعي الفرد والمجتمعات فنحرت وعي الجماهير باسم احترام الرغبات، ولن تتحرر المجتمعات حتى تتحكم في رغباتها، وهنا تتجلى عبقرية الفاروق عمر حين قال للمشتكين غلاء سلعة: "اتركوها لهم"، كذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه: كم من حاجة لنا قضيناها بالترك، وقال يوما للشاكين غلاء الزبيب: أرخصوه بالتمر، هؤلاء هم القادة والقدوة لأجيال رفعت شعار  "إذا غلا علينا شيء تركناه     فيكون أرخص ما يكون إذا غلا". تلك أمة انتصرت في ميدان النفس فسهل عليها كل ميدان.  لقد خُلق الإنسان بطبعه باحثاً عن الحقيقة، لكننا نعيش الآن أفقر حضارة مرت على التاريخ، إنها متخمة من الإنتاج السلعي في الوقت الذي أوصلت الإنسان إلى مرحلة الاغتراب، اغتراب عن نفسه أفقده الوعي بأسرار وجوده والاعتقاد في ألوهية السوق كما يقول روجيه جارودي، إن النموذج الاستهلاكي الحديث يقول لإنسان اليوم: لا داعي لأن تبحث عن الحقيقة في ما وراء الطبيعة، ما دام كل ما تتمناه رهن بخطوط الإنتاج فقط عليك أن تجنح بخيالك وتطلق لرغباتك العنان وسوف نجعل من خيالك ورغباتك واقعا ملموساً، وهكذا يغلق التاريخ صفحة مأساوية هي مرحلة الاستعمار ليفتح صفحة هي أعظم من تلك المأساة وهي .... مرحلة الاستحمار، بجعل الإنسان حماراً.