12 سبتمبر 2025
تسجيليثبت التصدي الجماهيري الواسع والمنظم للانقلاب العسكري وإفشاله في تركيا، وما تكشف من معلومات وبعضها من المعلوم بالضرورة حول الإرادة الدولية الوافرة في دعم الانقلاب، كيف دخلت تركيا مرحلة إعادة التأسيس وأنها بدأت خوض معركة الاستقلال الحقيقية، التي فشلت في إنجازها الكثير من الدول العربية والإسلامية، إذ انتهت التجارب التنموية المستقلة في الستينيات إلى وضع الاحتلال الصريح لبعض من الدول أو غير الصريح في أخرى. جاء الانقلاب فعلا دمويا يستهدف قطع الطريق على تركيا المسرعة الخطى لتحقيق الاستقلال الحقيقي وجرت مجابهة شعبية باتت أساسا لانطلاق أسرع وأعمق. ومعركة مواجهة الانقلاب على الديمقراطية التركية وعلى إرادة الشعب وعلى حكم العدالة والتنمية ليست معركة سياسية فقط، ولا تعود لخلافات في الرؤى فقط بين العسكر الذين يحاولون فرض وجودهم في هرم السلطة بقوة الدبابة، بل هي معركة فكرية وحضارية، إذ يمكن القول بأن الانقلابات العسكرية في تركيا –وكثير من الدول العربية والإسلامية - تتميز عن مثيلاتها في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، بأنها انقلابات ذات طبيعة أيديولوجية، لا مصلحية أو سياسية فقط.والأهم في فهم ما يجري في تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل، هو إدراك طبيعة معارك الاستقلال الحالية في العالم الإسلامي، والنظر إلى المعارك والصراعات الداخلية باعتبارها معارك تحقيق الاستقلال الحقيقي، إذ لم تعد معارك الاستقلال في كثير من الحالات معارك تحرر وطني من نير جنود وحكم المستعمر الخارجي، فتلك الحالة قد أخلت مكانها –إلا في العراق وسوريا وفلسطين- لتتحول إلى معركة داخلية بحكم الغزو الثقافي والحضاري وأعمال السيطرة الواسعة التي تقوم بها الشركات العولمية وبفعل تشكل نخب مجتمعية عبر عشرات السنين مرتبطة فكريا ومصلحيا بالغرب.والحالة التركية هي أشد الحالات تبيانا لطبيعة معارك الاستقلال "الجديدة"، إذ قامت التجربة الأتاتوركية على بناء جهاز دولة معادٍ لنمط المنظومة الحضارية والثقافية والقيمية للمجتمع التركي، وأوكلت للقوات المسلحة التركية استخدام أدوات القمع ضد الشعب، إذا أراد العودة إلى منظومته القيمية الأصلية والأصيلة، ولذا جرت أربعة انقلابات عسكرية لمنع أي تحولات عن الخط الأتاتوركى، الذي عاشت تركيا تحت سطوته حالة من الحيرة والانفصام لتصبح النموذج الأشد وضوحا للدولة الحائرة، بين المنظومة القيمية للمجتمع والمنظومة القيمية لجهاز الدولة –والأخيرة دخيلة على ثقافة وفكر المجتمع بل هي امتداد لحضارات ومفاهيم ومصالح دول أخرى مستعمرة- وهو ما أدخل تركيا في نمط متمادي من الحرب الأهلية الثقافية أو الحضارية الدائمة بين جهاز الدولة من جهة والمجتمع وقواه الحية من جهة أخرى.والآن وإذ جرى الانقلاب وجرت هبة شعبية واسعة أفشلته، فلم تعد فكرة الديمقراطية حالة تتعلق بتداول السلطة بالمعنى النظري أو العام، بل صارت الأداة الأهم في أدوات تحقيق الاستقلال، باعتبارها الطريق لاختبار وفرض إرادة الشعب وهويته –في الدول التي تعيش حالة انفصام بين فكر دولتها وفكر مجتمعها- وقد رأينا تجارب كثيرة رسخت الإدراك بأن الغرب يقف بالمرصاد لكل تجربة ديمقراطية، باعتبارها وسيلة تفرض إرادة الشعوب.وهنا تبدو أهم تجليات تجربة أردوغان، إنها أنتجت ما رأيناه من قوة وعى وحركة ومبادرة الشعب التركي في مواجهة الانقلاب العسكري وحققت القدرة على حركة الحشود المنظمة حتى التمكن من إفشاله، إذ لم يصل الرجل للحكم عبر ثورة في الشارع بل عبر صناديق ومع ذلك ظل ممسكا بالعصا السحرية للارتباط بالناس عبر أدوات الديمقراطية والتنمية..إلخ. تركيا تعود إلى نفسها الآن. وأمر ما سيجري سيستغرق وقتا (لا شك في ذلك) حتى تصل تركيا إلى وضعية التماهي والتناغم الطبيعي بين هوية الشعب وهوية الدولة، ولا بديل لحدوث ذلك سوى بالارتكان إلى أدوات الديمقراطية، إذ هي وحدها القادرة على حشد الناس سلميا، إلى درجة القدرة على إفشال الانقلابات العسكرية.