13 سبتمبر 2025

تسجيل

لا صوت يعلو فوق الثقافة والفكر

22 مايو 2024

أثناء انعقاد معرض الدوحة الدولي للكتاب، وفي تلك الأجواء الثقافية التفاعلية الجميلة التي عايشناها على مدى عشرة أيام، ورد على خاطري سؤال عن مدى تأثير الثقافة على تطور المجتمعات ونهضتها، وعن صلة الثقافة بالعلم والمعرفة، وهل من الممكن أن تعيق ثقافة مجتمع ما تطوره ونهضته؟، طرحت تلك التساؤلات على بعض القامات الفكرية والأدبية التي التقيت بها في المعرض كالدكتور القطري جاسم السلطان وهو مفكر ومحاضر وخبير إستراتيجي وله العديد من المؤلفات من أشهرها «سلسلة أدوات القادة»، والدكتور السعودي عبداللطيف العفالق وهو مؤلف كتاب «جذور» الذي ورد ذكره في مقالي السابق فطرحت عليهما تلك التساؤلات فكانت محورًا لحديثٍ علمي فلسفي شيق. وكما هو معلوم فإن الثقافة تُعرَّف اصطلاحًا على أنّها مجموعة من السمات والسلوكيات التي يتصف بها مجتمع ما ويكون لها تأثير على سلوكه وبالتالي تميزه عن غيره من المجتمعات، ومنها الدين، والأعراف، والعادات والتقاليد السائدة، والقيم، والفنون بمختلف أنواعها التي يشتهر بها أي مجتمع. وقد تحدث الدكتور جاسم عن التجربة الصينية كنموذج على أثر التحدي الثقافي والفكري على نهضة المجتمعات، حيث قال بأنه في بداية القرن العشرين وتحديدًا مع تأسيس الحزب الشيوعي الصيني في العام 1921م على يد الطلبة الصينيين الذين درسوا في اليابان وتأثروا بالشيوعية، وقد استوعب الطلبة الصينيون الدرس وعادوا محمّلين بما تعلموه من أفكار كانت الأساس الذي قام عليه الحزب الشيوعي الصيني، يقول الدكتور جاسم: «إن الحزب الاشتراكي الصيني واجه تحديا في أن يجمع الناس حوله على طريقة الحزب الشيوعي السوفيتي، وذلك أن الصين ليست دولة صناعية ولا يوجد فيها عمال وإنما فلاحون لذا لا يمكن السير في مسار التجربة السوفيتية، وهذا التحدي أفرز خطة تقوم على تدريب كوادر الحزب الشيوعي في المدينة على حياة الأرياف وثقافة أهل الريف، ومن ثم تتغلغل تلك الكوادر في الأرياف لكسب ثقة الفلاحين ومن ثم تعمل على نشر الفكر الشيوعي بينهم، وقد أدى ذلك إلى تشكيل الجيش الأحمر الذي قاده «ماو تسي تونغ» إلى العاصمة واستولى به على السلطة. وفي تحدٍّ آخر لثقافة المجتمع الصيني قرر «ماو « في عام 1958م تدشين سياسة عرفت بـ «لقفزة الكبرى إلى الأمام»، وهي خطة تهدف إلى تحويل الصين من دولة زراعية مستهلكة إلى دولة صناعية تنافس الدول الأكثر تقدمًا، إلا أن الخطة فشلت في تحقيق أهدافها فعانت البلاد من ويلات مجاعة تعتبر الأكبر في التاريخ من حيث عدد الوفيات. وفي عام 1966م أطلق «ماو تسي تونغ» ما سميت بـ»الثورة الثقافية» بهدف إحياء الروح الثورية وتطهير البلاد من «الطبقة البورجوازية» في الحزب الشيوعي، والتي كانت تمثل شريحة الرجعيين من وجهة نظره، وتقف عائقا أمام بناء فكره الاشتراكي في فترة شهدت فيها الصين اضطرابات اجتماعية وسياسية هائلة. وفي مثال آخر على أثر الثقافة على النهضة والتجديد يقول الدكتور عبداللطيف العفالق بأن المجتمعات الكلاسيكية عندما تشيخ أنظمتها وقوانينها وثقافتها تصبح غير قادرة على استيعاب متطلبات الأجيال الجديدة ولا على مواكبة الحياة العصرية، لذا تضطر قيادات المجتمع في محاولة لتعزيز استقراره وإشباع رغبات الشباب وتطلعاتهم باستيراد منتجات ثقافية وفكرية خارجية، ولعدم توافق تلك المنتجات مع الثقافة المحلية يحدث نوع من الاضطراب في المجتمع، وهنا ينقسم المجتمع إلى فئتين، فئة تتفاعل مع التغيير وترفض الثقافة المحلية التقليدية، وفئة تتجه لتطوير منتجات محلية بمعايير عالمية مع الأخذ بعين الاعتبار العمق الثقافي للمجتمع وهويته المحلية، وهنا يشير الدكتور العفالق إلى بعض المشاريع الثقافية المتعلقة ببحثه الذي امتد على مدى اثني عشر عامًا عن الوطن الأم للإنسان والذي سماه «متحف جذور»، وقد تم تناول ذلك المشروع في إحدى جلسات معرض الدوحة الدولي للكتاب وكان عرضًا ملهمًا وواعدًا للمهتمين بالمشاريع السياحية الثقافية النوعية. ومن هنا نخلص إلى أن تقدم المجتمعات مرتبط ارتباطا وثيقا بثقافتها إما سلبًا أو إيجابًا، وأن التأثير الأكبر يأتي من التغيير الأصعب وهو تغيير الثقافة، وذلك التغيير لا يحدث في يوم وليلة ولكن بحاجة لرؤية وأدوات وتخطيط وتنفيذ حتى يحدث التغيير المطلوب للنهوض والتقدم. وللحديث بقية...