15 سبتمبر 2025
تسجيلذلك الليل المُعتم أبحث به عن شيء مفقود، وفي كل ليلة أنتظر أن يحدث شيء، ليلة تلو الأخرى ولم يحدث شيء، أتجمد أمام شاشة الكمبيوتر بأصابع مشبوكة وبفم مزموم وأعين ملتصقة بعدسة النظارة، سرحان في وميض السهم فأثارني النعاس، ثم ألتفت نحو أي كتاب لأقرأ صفحة تائهة فأمتطي فكرة وأهرب بها إلى شاشتي البيضاء كالنملة حينما تسرق قطعة سُكّر فتضيع في دُهْمَة الحُفر الرمادية، فقدت تلك الليلة خشبة صغيرة كدت أكسرها على رأس شاشة الكمبيوتر لولا فقداني لها، افتقدت أصابعي ذلك القلم الذي طالما خربش على سطور الورق، فاجتث محبتي لوحة المفاتيح التي أغرس أصابعي في حروفها المحفورة بلا كلل فلم أعد ألامس قلمي، فهجرني وأصبح خطه متموجا كحياتي التي لم تسر على وتيرة واحدة، أذكر أن تلك الليلة لم أعش بها كما ينبغي فارتطم قلبي على حافة السرير، لم أعِ يوما ما كنت أكتب، ولم أبكِ لحظة إلا وبقلبي فسطاط من كلام، جربت الموت مرة فلم أبرح الحياة، بعد أن أسرى الهم بي دهرا فقاب قوسين أو أدنى، عشت ذات يوم وسط الأساطير المخرفنة فأصبحت أشبه بتحفة أثرية ليس بها سوى قلب مريض ينبض بألم. مكثت أمام الشاشة لكي تحضرني ملكة الإلهام، ووميض السهم زاد من تثاؤبي، شعرت بما يدور في خفايا روحي المنهكة، فكنت تلك الليلة أحوج مايكون لأهتف بحرفي وأكتب مابي، وأتحول إلى قلم وحبر مهجورين لم يرتضِ القدر أن يرسم لهما حياة ورقية أفضل، فسلما أمرهما لله لأنه القادر على كل شيء.تركت الشاشة وتركت معها ملكة الإلهام لأحارب نعاسي بالخروج من المنزل، على أن أجد قندسا أحدثه ويحدثني، بين شجرة وأخرى سرت وأنا أناظر ثمرات عاجزة عن الإنجاب تتساقط فوق وريقات الشجر اليابسة، بحثت عن ذلك القندس المرسوم بخيالي وهو يسير مثلي تماما فأنا أبحث عنه وأما هو فإنه يبحث عن نهر تتناثر فوقه قطرات مطر، وتحيط به الجبال الخضراء الشاسعة، استسلمت لذلك الخيال فأخرجت من حقيبتي رواية لنجيب محفوظ لأعيش أجواء أخرى لا تتناسب مع خيالي، ولكن سرعان ما أستيقظت من أضغاث أحلامي بعد أن وجدت أمام ناظري شابة انحدرت تدريجيا أنيابها وأسنانها الأمامية الأشبه بأسنان القنادس، تلك هي زميلتي في ذلك الفصل الثامنيني القديم، أتذكر أنها كانت تتسمر أمام الطاولات الأمامية في الصف آنذاك، دون أن تعار أي انتباه، لقد أخرجتني من عالم القنادس وعدت ثانية بعقلي إلى ممرات الفريج .- وش القصة ؟ قالت لي .- قصة إيش ؟- ما عندج إلا الكتب ؟ارتسمت علي ملامح خشبية أمام وجهها العريض وأنفها المعوج، وهي تعيد علي ذات الكلمات، وشذرات لعابها تناثرت على وجهي.ما عندج إلا الكتب ... ما عندج إلا الكتب ... ما عندج إلا الكتب ...تحدثنا جانبا لنصف ساعة عن أمور الحياة، وسلسلة الأسئلة تضاربت خلفها ذات الإجابة "ما عندج إلا الكتب "، انتهى اللقاء وسرت في طريقي وتتبعني صناديقي المتنمرة.. الغائرة.. الشامتة لتعيد علي الجملة بتهكم، فركضت والصناديق تركض خلفي ضاحكة، لا قنادس تنقذني ولا كتاب يخبئني في ثناياه سوى الرواية التي أحملها، دخلت إلى منزلي بعيون حمراء وتنفس متعب ودقات قلب سريعة، وصناديقي تردد غير آهبة "ما عندج إلا الكتب !"، فارتطمت بهم حافة السرير لأتخلص من تهكمهم .كانت ليلة لا تطاق.. عدت إلى شاشتي البيضاء.. ووميض سهمها المغلوب على أمره.. أسدلت الصفحة وفتحت صفحة أخرى لأقرر بعدها السفر إلى مكان ما بحثا عن قنادس تقرأني.. وقنادس أخرى أنا بحاجة إلى أن تستمع إلي بإنصات.