17 سبتمبر 2025
تسجيلارتبط الجسد عبر الثقافات بالمعتقد؛ أياً كان هذا المعتقد ونوعه، فثقافة تُمجده وثقافة تعبده وأخرى تحتقره وترى فيه ملاذاً للخطايا والآثام، فهو بحاجة إلى عملية تطهير دائمة إلى أن يفنى ويزول، وهناك ثقافة تجعل منه خط دفاعها الأخير الذي تنتحر ذوداً عنه إذا ما رأت أن هناك من يدنس قدسيته ويهين كرامته. فالجسد كان في السابق أجساداً مختلفة باختلاف المعتقدات والثقافات، أما عرّي الثقافة فتاريخه تاريخ البشر والناس عبر العصور، فهو لا يبدو مهماً أو خطيراً إلا حين يصطدم بالجسد فيصبح عرّي الجسد فاصلاً مهماً عدا غيره من أنواع العرّي المعنوي؛ على الرغم من أن هذا الأخير أكثر خطورة أحياناً إلا أنه لا يحقق ما يحققه عرّي الجسد من منافع تسويقية مادية. وعبر التاريخ كان التقاء الجسد بثقافة العرّي يواجه صعوبات في التحقق والانتشار فكان بطيئاً في انتشاره مُتثاقلاً في انتقاله ولا يشهده إلا من يقع ضمن أحزمه جغرافية معينة في هذا العالم، أما اليوم فإن العولمة جعلت من هذا الالتقاء حتمياً وآنياً وضرورياً. لقد ضمت العولمة الجسد الإنساني وبخاصة جسد المرأة ضمن محتوياتها الأخرى من الماديات ونجحت في تسليع الإنسان وتنميطه، فأصبح العرّي ارتقاء كما كانت تحكي بعض الفلسفات القديمة من أن التخلص مما يستر الجسد هو نفسه التخلص من الدنيا وبراثينها وزينتها الممقوتة؛ فالعرّي كان أولاً وهو طريق الخلاص. فبلاغة الصورة في عصر العولمة تحكي قصتين قصة عرّي الجسد وعرّي الثقافة. إن أبلغ ما يمكن أن تشاهده على قناة أي فضائية تلفزيونية عربية بالذات هو الأجساد العارية أو المستورة بما يعريها أمام المشاهد ويجعلها أكثر عرياً مما لو كانت عارية تماماً. نجحت العولمة في جعل العرّي نسبياً ولم يعد مطلقاً، يتفق الجميع حوله وربطته بالهدف فمن أجل الهدف قد لا يبدو العرّي عرياً؛ كما تتشدق بعض الفنانات من أن المشاهد الساخنة العارية لا تبدو كذلك عندما تكون في سياق السيناريو. وكذلك فعلوا مع عرّي الثقافة الذي لم يعد يخدش الحياء أو يثير الغرائز، وكل يوم نحن على موعد مع جانب من جوانب هذا العرّي النسبي الذي يُربط دائماً بهدف أسمى أو ضمن سيناريو أو سياق عام هدفه فيما يبدو جميلاً ونافعاً؛ فالدعايات عن المنشطات الجنسية للزوجين على مدار الساعة في وسائل الإعلام والوصفات الطبية والنفسية لها برامجها ومحاضراتها، حتى شيوخ الدين أدلوا بدلوهم في هذا المجال محاولة منهم لتحقيق السعادة الزوجية ولكن عن طريق ثقافة أخرى أكثر مقدرة على التفاصيل مما عهدنا منهم سابقاً، وكأن التقاء الرجل بالمرأة اكتشافاً جديداً أتى فقط مع العولمة وعصرها المجيد. فالفيديو كليبات المزدحمة في قنواتنا الفضائية تمثل ثقافة عارية من كل شئ سوى جسد جميل يتمايل يمنة ويسرة وطولاً وعرضاً؛ فبالتالي يجري تسويق العرّي بشكل غير مسبوق حتى الرياضة تم ربطها بعرّي الجسد وتحركاته وتمايلاته فأصبحت إحدى مغريات المشاهدة التلفزيونية بعد أن كانت عناءً وتحتاج إلى صبر وتحمل. ولأن العرّي مُستهلك قصير الأمد والمدة فيكفي المرء منه نظرة واحدة قد لا يكررها، ولأن الكثير منه لا يتفق وآدمية الإنسان، فلا نعجب من ارتداد الكثير من أصحاب العرّي وثقافته إلى التحجب والاستتار مرة أخرى، فالعورة سوءة وخطيئة كما ذكرها القرآن الكريم في قصة آدم وحواء وخروجهما من الجنة (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا). لكن الطريف أن الجسد المعولم مصحوباً بعرّي الثقافة في برامجنا التلفزيونية على أنواعها غير مدرك ولا يجعلنا ندرك كذلك حين نشاهده أننا نعيش في تناقض كبير يتمثل في قشور العولمة التي في مقدمتها الجسد المعولم العاري وبين واقع نعايشه هو أقرب إلى القرون الوسطى في مناطقنا العربية،حيث يفتك الجسد بنفسه منتحراً قاتلاً كان أم مقتولاً. على كل حال فإن مصادرة الخصوصيات بجميع أنواعها الثقافية أو الاجتماعية من سمات العولمة، ولكن الثقافة العربية والإسلامية لا تزال تملك الكثير من أساليب المقاومة الإيجابية لحيويتها إذا ما استثمر هذا الجانب استثمارا ًحسناً. وعلى مر التاريخ كان الجسد والجنس سلاحا هدم وخلخلة للثقافات، وقد أصبحا ثقافة لا تنتمي إلى شعب معين أو وطن معين وكل همها البحث عن الفائدة والربح السريع ويستخدمها من يعجز عن إتيان البيوت من أبوابها سواء كان نظاماً معتدياً أو فرداً تسوقه ماديته وأغراضه الدنيئة. [email protected]