12 سبتمبر 2025
تسجيلعلى الرغم من قصرها، تسلّط هذه الرواية الضوء على حادثة قتل نكراء جرت أحداثها في القرن التاسع عشر وطوى التاريخ صفحتها كحقيقة منسية أخرى من التاريخ الدموي لليهود على أرض المسلمين! بعد نكسة حزيران 1967 ومن وزارة العدل في دمشق، تصل إلى يد الروائي والطبيب المصري د.نجيب الكيلاني (1931-1995) صور من محاضر تحقيق ترجع لعام 1256هـ-1840م، عن اختفاء رجل دين مسيحي على حين غرّة في حارة اليهود، أسفرت عن مقتله غدراً على يد عدد من وجهائهم بعد أن تم استدراجه إلى حيّهم بتحريض من حاخاماتهم، وذلك من أجل خلط دمه بعجين لصنع فطير مقدس في عيد الفصح له أثر السحر في صنع المعجزات، حسب ما تورده نصوص التلمود، وقد أتبعوه بخادمه عندما قدم عليهم يتقصّى أثره! توثّق هذه الرواية المعززة بالمخطوطات جريمة قتل (القسيس البادري توما)، وهو الذي -رغم أصله الإيطالي وهويته الفرنسية- عاش في دمشق أكثر من ثلاثين عاماً شهد أهلها على خير ما قدّم لهم لا سيما علاجهم طوعاً، وقد تكفّل بقتله وتقطيعه إرباً اليهودي (سليمان الحلاق) والذي كان يدفن في صدره ضغينة له خلاف ما كان يظهر له من بشاشة، حيث أفقده الزبائن الذين لم يكونوا يلجؤون إليه إلا لفصد الدم، وهو الذي لم يتورّع عن قتل خادمه (إبراهيم عمّار) بعده بنفس الوحشية. لقد كان يصرّح بما اعتمل في نفسه الدنيئة لزوجه فقط، وقد قال لها في ليلة: «أراني مضطراً لأن أكذب وأمالئ وأنافق وأسرق بل وأقتل في بعض الأحيان! ألا ترين كيف حكمت أوروبا العالم وسيطرت عليه؟ وكيف استطاع الإنجليز أن يثبتوا أقدامهم في الهند؟ لا بدّ من الخوض في دماء البشر وجثث الضحايا.. الأقوياء ينتصرون، وليست القوة سيفاً ومدفعاً ولكنها قوة إرادة تسحق هواجس النفس وضعفها، وتسخر من كل القيم النبيلة». تعكس الرواية التاريخية عددا من الدلالات التي تفضح جبلّة اليهود وما يشهد عليهم واقع اليوم! فهم إذ يصنّفون غير اليهودي ضمن مرتبة (الأممين) أو (الأغيار) أو كما يُعرف لديهم بـ (الجوييم)، وهي مرتبة أدنى في الإنسانية من اليهودي الخالص قد تتدنى إلى مرتبة الحيوان، يصبح أي تصرّف مع هذا الكائن وفق ذلك مباح! وقد أظهرت الرواية قدرا من ذلك التطرّف العنصري والانحلال الخلقي والتعطّش للدماء في شخص التاجر اليهودي (داود هراري) وقد بارك صلب القسيس قبل سفك دمه والتلذذ بمشربه من أجل إعادة الفاعلية لرجولته، يؤازره أخوته (يوسف وإسحق وهارون)، ومعهم الحاخامان (سلانيكي) و(العنتابي). لا تقف دلالات الرواية عند هذا الحد، بل تعكس دأب اليهود على النفاذ في مفاصل الدولة من خلال تأسيسهم (حارة اليهود)، أو كما يُعرف اليوم بـ (الدولة العميقة)، وهو ما يكشف عن نشاط مبكّر لتأسيس حركة صهيونية عالمية، وقد جاء موقف ولاة المسلمين آنذاك خاضعاً ومتفقاً. أمّا وقد فُضح أمر المجرمين على الملأ وتم اعتقالهم رهن التحقيق، يعلن أحد الحاخامات إسلامه وقد تفرّغ للاطلاع على الديانتين المسيحية والإسلامية أثناء سجنه، بينما تساقط الباقون تباعاً في اعترافات دامية تقشعرّ لها الأبدان، في قضية كانت أشبه بقضايا الرأي العام آنذاك! حينها، تدّخل قناصل بعض الدول الأوروبية الموالون لليهود في سير التحقيق، حيث تم بيع الدماء الطاهرة بالمال اليهودي في النهاية، والذي اتسعت له ذمة والي مصر والشام آنذاك (محمد علي باشا) وخزائنه التي ساءلتهم: هل من مزيد؟. فتم الإفراج عن أولئك القتلة، وقُتلت العدالة في المقابل. ينقل الروائي خاتمة تلك الجريمة البشعة التي تم تطهيرها بجريمة أكثر بشاعة، قائلاً في نبرة جنون: «عندما قرأ شريف باشا والي دمشق ذلك «الفرمان» الغريب لهثت أنفاسه ودارت به الأرض. اشتد به الضيق وأقعده الخطب الجسيم عن النهوض، ورنت في رأسه كلمة «العدالة». لم يذبح البادري وخادمه وحدهما، وإنما قُطّع جسد العدالة إربا إرباً.. سبعة شهور من التحري والتدقيق والتحقيق.. اعترافات كاملة، شهادات ثابتة.. حتى البلاطة المنفسخة التي حطمت عليها جمجمة البادري وقطع طربوشه وعظامه والسكين، ويد الهاون.. تعاليم التلمود الصريحة، أقوال الحاخامات، التفاصيل الدقيقة الصغيرة لكل شيء.. يا ضيعة العدالة.. قناصل الدول الذين شهدوا كل شيء وتحققوا من كل شيء، قضية الرشوة الأخيرة.. العدالة.. العدالة.. هاهاها!! وأخذ شريف باشا يضحك في هستيرية ثم صاح فحضر العسكر، فقال لهم بصوت عال أجش: (أفرجوا عن جميع اليهود المسجونين.. تلك إرادة الوالي باشا الأعظم.. وليحيى للعدل). كان ذلك في يوم 5 سبتمبر (أيلول) عام 1840 ميلادية». وبما أن التاريخ لا يزال يعيد نفسه ولم يعتبر من عليه أن يعتبر، فلا أبلغ من تصوير حسرة البائع البسيط المنادي في أنحاء دمشق كما أوردها الروائي: «وبالقرب من المسجد الأموي، وقف بائع الكتب والمخطوطات القديمة يتحدث مع بعض الشباب: انظروا! هذه كتب قديمة عن ذبائح اليهود، وهذه مخطوطات ألفها علماؤنا الأقدمون عن فظائعهم وتاريخهم، ولكن للأسف أنتم لا تقرؤون».