10 سبتمبر 2025
تسجيلجاءت مشاركة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى في الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في دورتها السابعة والسبعين في نيويورك أمس، معبرة تماماً عن الظروف التاريخية التي يمر بها العالم بسبب التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والصراعات فضلاً عن الحرب الروسية الأوكرانية التي القت بظلالها على أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت كلمة سمو الأمير متسقة مع مواقف قطر ومبادئها الثابتة تجاه التطورات الدولية الحالية والمشاكل التي تعاني منها المنطقة. احتوى خطاب سمو الأمير على قراءة متعمقة لهذه التحديات مع تقديم اقتراحات موضوعية للتعاون الدولي في سبيل إيجاد الحلول الجذرية لها في ظل الشرعية الدولية والدور الإستراتيجي المهم الذي تقوم به الأمم المتحدة. ويمثل خطاب الأمير وثيقة سياسية إستراتيجية تعكس قضايا العالم بوضوح وشفافية ورؤية موضوعية تفصل بين الأزمات ودوافعها وكيفية الوصول إلى حلول منطقية لها. العالم قرية أول رسالة وجهها سمو الأمير إلى المجتمع الدولي مفادها بأن العالم أضحى قرية صغيرة تتداخل فيها همومنا وتتشابك قضايانا، ومع أن عالمنا تغير بوتيرة سريعة لناحية انتشار آثار أي حدث بيئي أو أزمة اقتصادية أو مواجهة عسكرية على المستوى العالمي، إلا أن مقارباتنا وأساليبنا لم تتطور بالوتيرة ذاتها لتواكب هذه التغيرات الثورية، وسواء أكان الرأي أن العالم أحادي القطب أم متعدد الأقطاب، فإن السياسة الدولية ما زالت تدار بمنطق الدول المتفاوتة القدرات والمصالح والأولويات، وليس بمنطق العالم الواحد والإنسانية الواحدة، وتحديدًا إدارة الأزمات العالمية من منظور مصالح ضيقة قصيرة المدى، وتهميش القانون الدولي، وإدارة الاختلاف بموجب توازنات القوى، وليس على أساس ميثاق الأمم المتحدة واحترام سيادة الدول. الحرب الروسية الأوكرانية الرسالة الثانية التي وجهها صاحب السمو في خطابه تتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، حيث قال سموه: ندرك تماماً تعقيدات الصراع بين روسيا وأوكرانيا والبعد الدولي له، ومع ذلك ندعو إلى وقف إطلاق النار ومباشرة السعي إلى حل سلمي للنزاع، فهذا ما سوف ينتهي إليه الأمر على كل حال مهما استمرت الحرب، ودوامها لن يغير هذه النتيجة، بل سوف يزيد من عدد الضحايا، كما يضاعف آثارها الوخيمة على أوروبا وروسيا والاقتصاد العالمي عموماً. قضية العرب الأولى لا يكاد أي خطاب لسمو الأمير أن يخلو من التذكير المستمر بالقضية الفلسطينية، وجدد سمو الأمير ذكر مواقف قطر الثابتة تجاه القضية العربية الأولى وما يعانيه الفلسطينيون من ويلات الاحتلال، وأشار إلى ذلك بقوله: لا أعتقد أن مندوبي الدول الحاضرين يحتاجون إلى التذكير بأن القضية الفلسطينية ما زالت دون حل، وأنه في ظل عدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية ومع التغير المتواصل للوقائع على الأرض أصبح الاحتلال الاستيطاني يتخذ سياسة فرض الأمر الواقع، مما قد يغير قواعد الصراع وكذلك شكل التضامن العالمي مستقبلاً، وأضاف سموه: من هنا أجدد التأكيد على تضامننا الكامل مع الشعب الفلسطيني الشقيق في تطلعه للعدالة، كما أكرر التأكيد على ضرورة تحمل مجلس الأمن لمسؤوليته بإلزام إسرائيل بإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. مجرمو الحرب لفت سمو الأمير النظر كذلك حول عجز المجتمع الدولي عن محاسبة مجرمي الحرب في سوريا على ما ارتكبت أيديهم، وإمعاناً في الخذلان أصبح البعض يسعى لطي صفحة مأساة الشعب السوري دون مقابل، ويتجاهل التضحيات الكبيرة التي قدمها هذا الشعب المنكوب دون حل يحقق تطلعاته. وتقدم القضية السورية درساً مهماً بشأن عواقب غياب الرؤية البعيدة المدى لدى قوى المجتمع الدولي الفاعلة حين يتعلق الأمر بمعالجة معاناة الشعوب من الطغيان اللامحدود والفقر المدقع والحروب الأهلية قبل أن تصبح ظواهر مرافقة لها مثل اللجوء وهي المشكلة التي تحتاج إلى حل. العملية السياسية في ليبيا وحول الوضع في ليبيا، طالب سمو الشيخ تميم - حفظه الله - باتخاذ إجراء دولي وفوري لاستكمال العملية السياسية والاتفاق على القاعدة الدستورية للانتخابات، وتوحيد مؤسسات الدولة، والجميع بات يدرك أنه لا يمكن استعادة الدولة دون توحيد القوى العسكرية وإعادة تأهيل الفصائل المسلحة في جيش وطني واحد، ونبذ من يرفض هذا الحل ومحاسبته. بصيص أمل في اليمن وتطرق سمو الأمير إلى الأزمة في اليمن حيث قال: نرى بصيص أمل في توافق الأطراف على هدنة مؤقتة، ونتطلّع إلى وقف شامل ودائم لإطلاق النار تمهيداً للتفاوض بين الأطراف اليمنية على أساس مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخاصة القرار 2216. التوافق الوطني عبر سمو الأمير في خطابه عن أمله في أن يتحقق التوافق الوطني في كل من العراق ولبنان والسودان، من خلال ارتقاء النخب السياسية إلى مستوى المهام المطلوبة والمعروفة اللازمة ليكون ممكناً تحقيق تطلعات المواطنين، والتي تضمن وحدة الشعب والوطن وتحفظ تنوعه في الوقت ذاته، مشيراً إلى ان الأمر ليس ممكناً فحسب، بل هو واقعي للغاية لو توافرت الإرادة والاستعداد لتقديم التنازلات للتوصل إلى تسويات والتخلي عن نهج المحاصصة الحزبية الطائفية التي ترفضها الأجيال الشابة. قطر والتحديات الدولية وقدم سمو الأمير رؤية قطر تجاه هذه التحديات الدولية الراهنة قائلاً: نحن في قطر نؤمن بضرورة التوصل إلى اتفاق عادل حول البرنامج النووي الإيراني يأخذ في الاعتبار مخاوف الأطراف كافة، ويضمن خلو المنطقة من السلاح النووي، وحق الشعب الإيراني في الاستفادة من الطاقة النووية للأغراض السلمية، ليس لدى أحد بديل عن مثل هذا الاتفاق، وسوف يكون التوصل إليه في صالح أمن واستقرار المنطقة وسيفتح الباب لحوار أوسع على مستوى الأمن الإقليمي. أما في أفغانستان، دعا سموه جميع الأطراف إلى الحفاظ على مكتسبات اتفاق الدوحة للسلام والبناء عليه، ومنها ألا تكون أفغانستان ملاذاً للأفراد والجماعات الإرهابية والمتطرفة، حتى يحظى الشعب الأفغاني بالاستقرار والازدهار الذي طال انتظاره، وأضاف سموه: لقد أكدنا مراراً على ضرورة حماية المدنيين في أفغانستان، واحترام حقوق الإنسان والمواطن، بما في ذلك حقوق المرأة، وحق الفتيات في التعليم، وتحقيق المصالحة الوطنية بين فئات الشعب الأفغاني، وحذر سمو الأمير من خطورة عزل أفغانستان وما يمكن أن يترتب على محاصرتها من نتائج عكسية. مساهمة قطر في حل مشاكل الطاقة قدم سمو الأمير في الخطاب رؤية قطر في المساهمة في حل هذه الأزمة بفضل استثمار قطر في الغاز الطبيعي المسال منذ عقود خلت، وقال: تمكنا الآن من الشروع في توسعة حقل غاز الشمال، والذي سيلعب دوراً محورياً في التخفيف من أزمة نقص إمدادات الطاقة في أجزاء مهمة من العالم، مشيراً إلى أن ثمة سلعا مثل الطاقة والغذاء والدواء تحمِّل مصدّريها مسؤولية تتجاوز المسؤولية التجارية، وذلك بدءًا بالموثوقية واحترام العهود، ومن ناحية أخرى، لا يجوز حظر مرور مثل هذه السلع أو منع تصديرها أو استيرادها في مراحل الأزمات السياسية وفرض الحصار على الدول، وبالدرجة ذاتها لا يجوز استخدامها أداة في النزاعات، فهي ليست سلاحاً، تماماً مثلما لا يجوز التحكم بمصادر المياه كأنها أدوات سياسية. المستقبل إلى أين؟ قدم خطاب صاحب السمو تحليلا سياسيا لمستقبل العالم في ظل هذه التحديات والكيفية التي يمكن بها مواجهة هذا الواقع فقال: قد ترسم وقائع عالمنا اليوم صورة قاتمة عن مستقبل الإنسانية، ولكننا نؤمن بالحوار والعمل المشترك ومحاولة تفهم كل طرفٍ للطرف الآخر بأن يحاول أن يضع نفسه في مكانه ليرى الأمور من منظوره. والدول الصغيرة والمتوسطة هي الأكثر حاجة لقواعد ثابتة تنظم العلاقات الدولية، فلا يصح أن تكون الاتكالية على الدول العظمى سبباً في التقاعس عن تحقيق التواصل بيننا، ويرى سموه أن لكل منا دورا يقوم به، وما يبدو اليوم مستحيلاً سيكون واقعاً إذا توافرت الرؤية والإرادة والنوايا الحسنة. إن النهج الذي اتخذناه في قطر هو التركيز على التنمية الوطنية والتنمية الإنسانية داخلياً، وعلى السياسة الخارجية القائمة على الموازنة بين المصالح والمبادئ، والوساطة في حل النزاعات بالطرق السلمية، وإدراك مسؤوليتنا كمصدر للطاقة. وهو ما مكننا من ترسيخ سمعتنا كشريك موثوق به دولياً. وفي ختام خطابه وجه سمو الأمير الدعوة إلى قادة العالم لحضور الحدث الدولي الاستثنائي الكبير وهو مونديال قطر 2022 قائلا: سوف ترحب قطر بالعالم في نوفمبر من هذا العام عندما نستضيف بطولة كأس العالم. لقد تطلب التحدي الذي أقدمنا عليه منذ اثني عشر عاماً تصميماً وعزماً حقيقيين والكثير من التخطيط والعمل الجاد، وها نحن اليوم نقف على أعتاب استضافة منتخبات العالم وجماهيرها، ونفتح أبوابنا لهم جميعاً دون تمييز ليستمتعوا بكرة القدم وأجواء البطولة المفعمة بالحماس، وليشهدوا النهضة الاقتصادية والحضارية في بلادي. في هذه البطولة، التي تقام لأول مرة في دولة عربية ومسلمة، ولأول مرة في الشرق الأوسط عموماً، سيرى العالم أن إحدى الدول الصغيرة والمتوسطة قادرة على استضافة أحداث عالمية بنجاح استثنائي، كما أنها قادرة على أن تقدم فضاء مريحاً للتنوع والتفاعل البناء بين الشعوب. واستعرض سموه مؤشرات الأثر الإيجابي لهذا الحدث في منطقتنا فقد قامت دول عربية شقيقة باعتبار بطاقة هيّا التي تشمل تأشيرة الدخول إلى قطر تأشيرة للدخول إلى تلك الدول أيضاً، مما قوبل بترحيب الرأي العام، وحفز الشعوب. وقد خلص خطاب سموه بقراءة واقعنا اليوم مع تقديم رؤية واقعية وخريطة طريق للتعاون الدولي الذي يسهم في وضع الحلول لهذا الواقع. رئيس التحرير