12 سبتمبر 2025

تسجيل

ترجمة الرواية.. فن وثقافة

21 سبتمبر 2019

انتهيت من قراءة رواية (الرجل الذي كان ينظرُ إلى الليل) للروائي المصري/ الفرنسي (جِلبر سِينُوِيه) الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، بدولة الكويت عام 2016. وقام بترجمة الرواية إلى العربية الدكتور محمود المقداد. لن تكون هذه الوقفة للحديث عن أحداث الرواية واتجاهاتها، فهي معروفة في عالم النقد والآداب، ولكن ما جذبني لمتابعة الرواية هي الترجمة؛ التي أضافت روحاً جمالية وثقافية على سطور الرواية، وقدّمت شروحاتٍ للعديد من الكلمات التي قد تستَعصي على القارئ. في 365 صفحة يشهدُ القارئ قاموساً دقيقاً لأية كلمة قد تبدو غريبة، أو أن يكون أصلُها عاميّا أو فرنسياً، كون الروائي مُشبّعا بالثقافة المصرية والفرنسية في آن واحد. وأستطيع القول إن المترجم كان راوياً آخر للأحداث، مُتابعاً لما كُتب عن الروائي (سِنيوِيه) في الصحافة، وكيف أنه تحوّلَ من نهج الرواية التاريخية إلى السيرة الروائية، حيث يقول: «هذا الكتاب يعني لي الكثير، وقد وضعتُ في الكثير منّي، من ذاتي، وهذا لم أضعه في أي عمل آخر». ليأتي المُترجم في الهامش، ليقول: «ونجد إحدى المُعجَبات بالرواية تكتبُ تعليقاً عن معالجته للطبيعة البشرية فيها، تقول: «اكتشافك للطبيعة البشرية قويّ جداً، كما في أعمال شكسبير». ( أمل دوزي). وتُذكّرُنا الرواية بروايات عربية عديدة حاولت الارتحال من الوطن، وتحدثت عن الصدمة الثقافية، والتَنازع بين قيم الشرق وقيم الغرب، كما في رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم (1938)، ورواية (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي (1940)، ورواية الحيّ اللاتيني لسهيل إدريس (1954)، وغيرها. حيث ينتقل البطلُ من مصر كي يدرس الطب في باريس. ويحمل الطبيب (تيوفان) عقدة فشله في إنقاذ مريض بالقلب، حتى نهاية الرواية، حيث ينجح في إنقاد مريض (إليكسيس) الصغير، ويجعل قلبه ينبض مرة ثانية. ويذكُر الروائي العديدَ من أسماء العلماء والفنانين والمستشرقين، ما يدل على ثقافته الواسعة، ولكن ثقافة المترجم قد فسّرت المواقفَ التي كانت تحتاج إلى تفسير، نلاحظ في الصفحة (71)، تعريفاً موجزاً لأسماء وردت في الرواية، مثل: الروائي أندريه جيّد الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1949، نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1988، الفونسو دو لا مارتين، الشاعر والسياسي الفرنسي ( 1790-1869)، وكان قائداً للاتجاه الرومانسي عبر ديوانه المشهور (تأمّلات)، وأيضاً (أبونواس)، الحسن بن هانئ ( 145-198) من شعراء العصر العباسي الأول، وقد وُلد في البصرة، وتخرّج في الشعر على يد الشاعر (والبة بن الحبّاب) بالكوفة، والرواية خلف الأحمر، وكان مُقرّباً من الخليفة الأمين، وصاغ أغلب شعره في الخمريات. كما يورد الروائي بعضَ الحِكَم والمقالات، يقول في صفحة (82) على لسان (ديمتري): «ضع في رأسك جيداً أن عشرةَ بالمئة من البشرية يموتون ميتةً طبيعية، والبقية يموتون من الحَسد والغيرة، لا تضحك! إنني جادٌ، وتنبعثُ من بعض الناس، طاقاتٌ سوداء، وأفكارٌ أكثر سُميّة من السمِّ الذي قتلَ (سقراط)». وبطبيعة الحال، فإن ما ذهب إليه الروائي واقعٌ مُعاش، حتى هذه الأيام، حيث موت الأغلبية من الحسد والغيرة، وتتَبعِ حياةِ الآخرين، ولا يفوت المترجم تعريفُ (سقراط)، حيث يذكر في الهامش: سقراط، فيلسوف يوناني ( 470 -399 ق.م ) عُرف من قِبل مُريده (أفلاطون)، وهو أبو الجدلية (الديالكتيك)، وبالنتيجة أبو الفلسفة كلها، وقد حُكِم عليه بالموت عن طريق تجرّع السُمّ. في صفحة 83 تمر علينا كلمة (باغلما)! وهي « Baglama»، وأعتقد أن كثيرين من العرب لا يعرفون الكلمة، بمن فيهم الأدباء، إلّا أنه المترجم يُزيل الالتباس، ويشرح الكلمة، كالتالي: «الباغلما، آلة موسيقية متطورة عن (البوزوكي) أو (البُزق)، وهي من الآلات الوترية الأكثر شعبية وانتشاراً في البلقان وتركيا، وبعض المناطق في سوريا والعراق». كما يقوم المترجم بشرح بعض التعابير الفرنسية، والتي تشُكّل الذائقة والأعراف، حيث نقرأ في صفحة (169): «ويذهب إلى صيد السمك، عندما يرغب في ذلك، ويَقيلُ من غير أن يكسر إحدى أذنيه»، والعبارة الأخيرة معروفة في الثقافة الفرنسية، لكنها تُشكل على غيرهم، وفسّرها المترجم على أنها كناية عن الهدوء، وعدم إزعاج الشخص أثناء قيلولته بأي صوت. ومن ذلك أيضاً ما ورد في صفحة (170)، في الحوار الذي يقول: - حدث فيها الانفجار الكبير ( Big Bang)، وفسّرها المترجم كالتالي: «الانفجار الكبير هو في الأصل، مصطلح علمي فضائي إنجليزي، أُطلق، لدى الطبيعيين، على النظرية التي تُفسِّر نشوء الكون وتشكيله، واستعمله (تيمور) هنا كناية عن تفجّر العلاقة بين الأبوين وتخريبِهما لأبنائهما». بالطبع هذه النظرية تُخالف نظريةَ خَلقِ الكون التي نؤمن بها، ووردت في القرآن الكريم. ونلاحظ أن المترجم مُلمٌّ بالتطورات التاريخية والأدبية، وأنه قرأ العديد من الروايات العالمية، والتي مرّ ذكْرُها في النص، فمثلاً نقرأ في صفحة (181): «لماذا كانت تعاودني بلا انقطاع صافعةً صدْغي، ولحوحة، تلك الجملة الشهيرة في رواية الغريب (L`Etranger)، اليوم ماتت أمي، أو ربما أمس، لستُ أدري! ويأخذنا المترجم إلى الهامش الذي يذكر فيه: «رواية (الغريب) هذه للكاتب الفرنسي (ألبير كامو) 1913-1960، كان وُلد في قرية تابعة لمدينة (قسنطينة) بالجزائر، من أبٍ فرنسي، وأمّ إسبانية، وتعلّم في جامعة الجزائر. كان فيلسوفاً وجودياً، وقد بذر بذور فلسفة اللامعقول والعبثية، في كتابه (اسطورة سيزيف) Le mythe de Sysiphe، سنة 1951، وله ثلاث روايات مشهورة هي ( الغريب)، (الطاعون)، (السقوط)، وله مسرحية كاليغولا (Caligula)، نال جائزة نوبل للآداب سنة 1951، توفي في فرنسا، ونُقل رفاتهُ بأمر من الرئيس الفرنسي (ساركوزي)، لم يكن وُلد عام 1951، العام الذي توفي فيه (كامو)، ليُدفن في مقبرة العظماء (الأنفالية) في باريس، في احتفال مُهيب». هذه الشروحات التي ملأت هوامش الرواية، أضافت معلوماتٍ جديدةً وثريةً لقارئ الرواية، وأغنتهُ عن الرجوع إلى مراجع متعددة لمعرفة تلك المعلومات والكلمات التي تصدر عن الشخصيات. كما أن للمترجم خلفية دينية، سواء كانت يهودية أم مسيحية أم إسلامية، نلاحظ في صفحة (217)، عندما ورد ذِكرُ رقصة ِالمناديل السبعة، يشرح المترجم: «رقصة المناديل السبعة، ورد في إنجيل (متّى)، الإصحاح 41 ( الفقرات 3-11)، أن القديس (يُوحنّا المعمدان) Jean-Bapiste، (وهو النبي يحيى بن زكريا)، عند المسلمين، كان يقول لملك اليهود، (هيرودوس انتياس) 7 ق.م- 39 ق.م، إن (هيروديا)، زوجة أخيه لا تحّل له زوجة، فسَجنهُ، ولما أراد أن يقتله، خاف من الشعب، لأنه كان عندهم مثل نبيّ. ثم لما صار مولد (هيرودوس)، رقصت ابنته (هيروديا)، وهي الأميرة اليهودية سالومي (Salome)، في الوسط، فَسَرَّت (هيرودوس)، ومن ثم وعَد - بقسَم - أنه مهما طلبت يُعطيها، فهي إن كانت قد تلقّنت من أمها، قالت أعطني على طبق رأسَ (يوحنا المعمدان)، فاغتنم الملك، ولكن من أجل الأقسام والمُتكئين معه، أمر أن يُعطى. فأرسل، وقطعَ رأس (يوحنا) في السجن سنة 28م، فأُحْضرَ رأسه في طبق، ودُفع إلى الصبية، فجاءت به إلى أمّها. ويُروى أن الرقصة (المناديل السبعة) التي رقصتها (سالومي)، هي رقصة المناديل السبعة، وسُميّت بذلك، لأن الراقصة كانت تلفّ جسدها بسبعة مناديل رقيقة، كل منها بلون مختلف، فتحِّل الأول، وترقص به، ثم ترميه، وتحل الآخر، حتى السابع، وتنتهي الرقصة بذلك. ويبدو أن أصل هذه الرقصة القديم كان، فيما يُروى، في الأساطير البابلية والآشورية، أن إِلهةَ الخصب (عشتار) كانت أول مَن رقصَها، ولكن فيما يُشبه تعرّي الراقصات قطعةً قطعة، في أيامنا، أو رقص ستربتيز (Strip- tease)، حتى تنتهي من آخر منديل، عاريةً تماماً أمام الحضور. هذه الترجمة الرصينة والشاملة والمثيرة، أضافت إلى الرواية عمقاً وجمالاً، ما أبعدها عن الترجمة النصية الحرفية الجافة، مما نلاحظه على ترجمات العديد من الأعمال عن اللغات الأخرى.   [email protected]