15 سبتمبر 2025
تسجيللعل من أسباب حماسي للبدء في المساهمة بزاوية أسبوعية هنا أنني أكتب في دولة قطر الحبيبة، والتي كانت لها ريادة فاعلة في تغيير مسار الإعلام والفكر من حكومي باهت وميت استشرى في الدول العربية إلى إعلام حر وفكر مضيء ومتقدم ومنافس، ولست أخص جهة معينة في قطر، بل لعلها كانت رؤية عامة وحركة أسهمت بها جهات عدة، هذا علاوة على حماسي لمشروع وفكرة رياح التغيير، وتوج هذا كله استضافة لطيفة ومبادرة رقيقة من جريدة الشرق ومن رئيس تحريرها صاحب الخلق الدمث الأخ الفاضل والأستاذ الكريم جابر الحرمي حفظه الله تعالى. فيسرني أن ألتقي بكم كل أسبوع عبر هذه الزاوية وأن أستمع إلى اقتراحاتكم ومساهماتكم من خلال الإيميل الذي سيكون آخر كل مقال، لنتشارك جميعا في توجيه رياح التغيير نحو الأمان والازدهار. ضرورة التغيير لو لم يغير الشجر أوراقه لما أخرج لنا ثمرا زاهيا ناضجا ولو لم يغير الماء مكانه وجرى لأصبح آسنا لا يصلح للشرب ولو لم يجدد جلد الإنسان نفسه وتتغير خلاياه لأصبح جيفة ولو لم يتغير حالنا من ليل إلى نهار كل يوم لفقدت الحياة متعتها وحيويتها كل ما حولنا يتغير، ونحن أيضا نتغير شئنا أم أبينا، فأنت بالأمس لست كحالك اليوم، ومنذ كنت طفلا لست كحالك في الشباب، وفي الشباب لست كما في المشيب أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت أيام الشباب؟ فالتغيير سنة كونية لتبقى الحياة سارية في هذا الكون، وهي كذلك مطلب بشري وشرعي ليظل الإنسان مواكبا لكل جديد ومتأقلما مع بيئته المتجددة، وكذلك مطلب حضاري لتظل الأمة حية متوقدة متحضرة مواكبة للزمن. وهو كذلك ضرورة عقلية تحث عليها الفطرة، إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب هذا كله إن كان التغيير فضيلة وميزة وفضلا، فكيف إذا أصبح ضرورة ملحة وحاجة ماسة تمليها علينا الظروف التي تعيشها الأمة، وتؤكدها دركات التخلف التي وصل إليه واقعنا العربي؟! ولعل ابن خلدون المتوفى سنة (808)هـ خير من يصف المشهد العربي الحالي، إذ يقول رحمه الله " الظلم بداية انهيار الأمم، وأخذ أموال الناس بالباطل يجعلهم يزهدون في العمل والإنتاج، لأن حقوقهم تسلب منهم، وعندئذ تبدأ حركة الأسواق بالضعف، ويبدأ سكان البلد بالهجرة طلباً للرزق، فتخلو الدولة من أفضل كفاءاتها، وبذلك يختل أمر الدولة ". وكل منصف ومحايد يعترف بريادة " ابن خلدون " في علم الاجتماع، حتى قال فيه فيلسوف التاريخ الانجليزي " أرنولد توينبي": لقد ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي من دون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم ". رياح التغيير رياح التغيير هو الاسم الإعلامي لمشروع التغيير الحضاري الذي أنادي به منذ زمن، ومن يتتبع تاريخ أمتنا يلحظ بشكل واضح حجم التحولات التي وقعت لها، خاصة في القرن العشرين، الذي فيه تم إسقاط الخلافة العثمانية الإسلامية، وفيه وقعت البلاد العربية تحت الاستعمار الذي سامها سوء العذاب، وسرق خيراتها، وبسط نفوذها على مقدراتها، ثم تلتها فترة التحرر من قبضة الاستعمار الأجنبي، مع بقاء الأنظمة المستبدة، التي تُستبدل كل فترة بفعل الانقلابات العسكرية، وبقيت الأمة ترزح تحت الظلم والاستبداد، مع ضعف التنمية واتساع رقعة التخلف في كافة المجالات (الإدارية والسياسة والمالية والتربوية..)، ونتيجة لهذه العوامل فقد الإنسان العربي حريته، وهدرت كرامته، وعاش جسداً بلا طموح أو روح أو هدف، حتى منّ الله تعالى على الأمة بثورات شعوبها التي استيقظت بعد سبات طويل، وانتفضت على الظلم والاستبداد، وارتفع صوتها عالياً مطالباً بالحرية وكرامة العيش، وهنا أريد أن أكد أن سبب هذه الثورات ليس معيشيا ولا خدماتيا ولا حتى اقتصاديا أو اجتماعيا، سببها هو الكرامة المفقودة، كرامة الحرية وكرامة العيش وكرامة القرار، هي باختصار كرامة الإنسان، وهذا ما جعل الناس تقدم فيها أرواحها وتثبت ثبات الجبال الرواسي أمام جرائم الأنظمة المستبدة واستخدامها لكل أنواع التنكيل والتعذيب، لأن الكرامة والحرية إذا سلبت لم يبق للإنسان شيء يحزن عليه. إن أوراق الشجر اليابسة تنتظر رياحا تطير بها لتخرج مكانها أوراق خضراء متجددة يانعة، وكذلك أمتنا كانت تنتظر هذه الثورات لتبدأ رحلة الخضار والثمر اليانع إن هي أحسنت توجيه دفة القيادة. ماذا بعد الثورات؟ هذا السؤال هو الأكثر إلحاحاً، ماذا بعد التغيير..؟ فبعض الثورات العربية انتصرت، والبعض الآخر مازال ينتظر، وشعوب عربية أخرى بدأت تتململ لتأخذ زمام المبادرة، فماذا نريد.. وماذا تريد تلك الثورات العربية..؟ هل نريد التغيير السياسي..؟ وعلى أيّ أساس نبني واقعنا الجديد..؟ وكيف يمكن تجنب تكرار مأساة الشعوب من تسلط الساسة وظلمة الأقليّة للأكثرية..؟ ما سأطرحه في هذا الكتاب مشروع تخطيط استراتيجي للأمة، مشروع تغيير حضاري، يضع أهدافاً واضحة قابلة للقياس، ويمكن أن نحققها في (20) سنة، بإذن الله تعالى. ما سأطرحه ليس مجرد مقالات أو خواطر أو نظريات حالمة بل هو عملية تحريك شاملة للأمة بدأتها الثورات ويجب أن تكون لنا معها مبادرات ووقفات لتسير بالمسار الصحيح وليقدم كل منا ما يستطيع ويقوم بدوره ويعرف إلى أين ينبغي أن تتجه السفينة.. قضية التغيير الحضاري..همّي الأول منذ فترة طويلة وقضية الحضارة تشغل فكري، وكانت أول محاضرة ألقيتها في عام (1986م)، وكانت في أمريكا تحت عنوان " صناعة الحضارة " فمنذ الثمانينيات وأن أفكر في نهضة الأمة وكيفية استعادة حضارتها، ورغم انشغالي به كثيراً، إلا أني كنت قليل الكلام حوله، لأنه موضوع خطير يحتاج إلى مؤسسات ودراسات ومنظمات، وليس إلى جهد فرد قد يعتريه النقص والخطأ والشطط أحياناً. وكنت دائماً ما أسأل نفسي، ما بال أمتنا باتت في ذيل الأمم؟ ولماذا ينتشر كل هذا التخلف في بلدانها وبين شعوبها..؟ ما الذي جرى..؟ ما الذي حصل..؟ كيف ولماذا ومتى ومن المسؤول..؟ لماذا لا نعود من جديد ونقود الأمم كما قدناها من قبل، ماذا نريد حتى نعود سادة الأمم والشعوب..؟ ما الذي يعيقنا عن التقدم نحو الهدف المنشود..؟ وأسئلة كثيرة تدور حول فكرة التغيير الحضاري، ونهضة الأمة الإسلامية. انتظار وملل ولأن مسألة التغيير الحضاري تحتاج إلى متخصصين، وإلى دراسات وأبحاث، وجهد جماعي كبير، فقد لبثت طويلاً أنتظر أن يأخذ بعض المفكرين زمام المبادرة، أو تطرح بعض المؤسسات مشروعاً للنهوض الحضاري من جديد، لكني انتظرت حتى سأمت الانتظار، ومللت من كثرة التلفّت. وزادني بؤساً أني وجدت أكثر المفكرين يحسنون عندما يتكلمون عن الماضي، فإذا تلكموا عن الحاضر أبدعوا وبهروا العقول، ولكن إذا تكلموا عن المستقبل اقتصر حديثهم على الشعارات الرنانة، والأحلام والأمنيات، التي لا ينهض بها تخطيط واعٍ، ولا تقودها منهجية واضحة، وإذا بحثت في طياّت حديثهم لم تجد خطة واضحة توصلنا للنهضة، ولم تجد حلولاً ناجعة لمشكلات التخلف وضعف التنمية وغيرها.. الشعارات لا تصنع الحضارة الشعارات الرنانة لا تقدّم خطة، ولا تضع بين يدي النخبة مشروعاً عملياً يقود إلى التغيير الحضاري، لذا فهي لا قيمة لها من الناحية العلمية والعملية، لأنها مجرد شعارات، لا تقدم ولا تؤخر. العقل والشرع يوجبان علينا أن ندرس الماضي.. وقد درسناه وتعلمنا منه الكثير، كما يوجبان علينا أن ندرس بتعمق واقعنا ونحلله جيداً، وربما يفعل بعضنا ذلك، وكذلك يوجبان علينا أن نخطط للمستقبل ونبدع في التخطيط للنهوض من جديد، وهذا ما ننتظره من المفكرين والقادة وأصحاب الرأي، ننتظر منهم خطة طريق واضحة، ومنهجية علمية، وخطوات عملية تحقق لنا التغيير الحضاري المنشود، أما الشعارات وحدها فلن تغيّر الواقع، ولن تصنع المستقبل. فالهدف المنشود من هذا المشروع الذي سيتوزع على مقالات هو النهوض بأمة عظيمة حضارية تقود البشرية من جديد. وهذا الهدف لا يتحقق بالآمال والأماني المجردة، بل لابد من وجود خطة واضحة. مشروع التغيير الحضاري يطرح مشروعاً متكاملاً يجيب على جملة من التساؤلات، كيف نعيد حضارتنا من جديد..؟ كيف نعيد بناء أمتنا من جديد..؟ هذا المشروع لا يتكلم كثيراً عن الماضي، ولا يستعرض إلا القليل من مشاهد الحاضر، استعراض تحليل لا نقد، أما جلّ الحديث فسيكون عن المستقبل المنشود، والأمل الموعود، من خلال طرح خطة واضحة الأهداف والمعالم، خطة قابلة للتنفيذ والقياس، وسنقدم مشاريع ومقترحات عملية للعشرين سنة القادمة، وسأضع بين أيديكم نموذجاً يساعد على التطوير النهضوي لما بعد مرحلة الثورات، وهذا النموذج التغييري يصلح أن يكون للأمة الإسلامية كلها، كما يصلح أن يكون نموذجاً لبلد واحد، ويصلح كذلك أن تطبقه جماعة أو منظمة أو مؤسسة. في مشروعي هذا سأدمج بين علم التخطيط الاستراتيجي وبين علم التغيير، لتكون النتيجة خطة عملية متكاملة للنهوض بالأمة والاستفادة من التغييرات الكبيرة الحاصلة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. هذه أفكار سريعة وممهدة لمقالات كثيرة قادمة بمشيئة الله تعالى.