20 سبتمبر 2025

تسجيل

إشكالية النقد في مجتمع مُنجز

21 أغسطس 2019

الفرق بين التعامل مع الواقع وبناء الواقع نفسه يحدد في اعتقادي وظيفة النقد في المجتمع، المجتمع الذي بنى نفسه يختلف عن المجتمع المُنجز. الأول شارك النقد في بنائه، بينما الآخر اكتفى النقد بالإشارة إلى عثراته ومشاكله وتخبطاته؛ وأقصد بالنقد هنا حركة المجتمع ورؤيته حول حاضره ومستقبله. النقد في الأول حركة بنيوية بينما في الأخر بنية فوقية قد تتعمق إذا ما سمح لها، وقد تكتفى بوضعها الفوقي وتؤرشف في أدبيات المجتمع لا غير. يقوم النقد في المجتمع الأول على المثقف العضوي، بينما ينتزع الصدارة في الثاني المثقف التقليدي، وقد يعانى رديفه الأمرين. في المجتمع الأول - الذي بنى إنجازه- الصحافة نابعة من المجتمع، بينما في الأخر هي انعكاس للمنجز ذاته. القانون في الأول يسري في أوصال المجتمع؛ لايستثنى منه وصل دون غيره، بينما في الأخر هو ضمن مشاريع الخصخصة التي تعج بها مجتمعاتنا المنجزة. السياسة في المجتمع المبني هي ديناميكيته وحراكه، بينما هي في المجتمع المنجز رجس من عمل الشيطان. المواطن في الأول لبنة من لبناته، بينما في الأخر ضيف ينتظر منه خفة الظل وإلا الباب» يسع جمل». الكُتَّاب في المجتمع الأول عيون وآذان، بينما في الأخر شلة من المتطفلين والزائدين عن الحاجة. الثقافة في المجتمع الأول بناء وهيكل، بينما في الأخر رداء قد يلزم وقد لا يلزم. في الأول الثروة وسيلة، بينما في الأخر غاية وهدف. في الأول المستقبل يسكن القلب، بينما في الأخر الحاضر أحلى ولاشىء غيره. في الأول يُجرى التغيير بطريقة نقدية ذاتية وكمراجعات، بينما في الأخر يُمارس النقد قصفاً في بنية صلدة ليس هو من أجزائها أصلاً. في الأول هو ذاتي الوجود، بينما في الأخر هو مختلق وربما من لوازم الشرعية في هذا العصر إيجاده. على كل حال، الطريف في عالمنا العربي أنه حتى في المجتمعات التي بنت إنجازها كالجزائر مثلاً وغيرها لم تستطع التعامل مع هذا الإنجاز كجزء أساسي منه فبقيت مع غيرها سواء بسواء. هذا يطرح سؤالاً مهماً حول طريقة بناء الإنجاز ذاته ومن استغله دون الغير، فالمجتمعات التي كافحت لنيل الاستقلال لم يخطر ببالها يوماً أنها بحاجة لاستقلال أخر من الداخل، فبالتالي كانت حركة هذه المجتمعات الاجتماعية قاصرة على الغير دون أي تأثير فاعل في بناء داخلي وإلا لاستمرت هذه الحركات في ديناميتها حتى اليوم، لأن الوقوف عند نقطة معينة دون حراك يجعل منها كتلة ومع الوقت لايمكن تجاوزها بسهولة؛ ومثال الثورة الفرنسية واضح في استمراريتها حتى اليوم. إن بناء المجتمعات عملية مستمرة والفكر بما فيه النقد جزء من هذا الاستمرار فإذا اُنجز المجتمع وغلقت حوله الأبواب تحوَّل الفكر بما فيه النقد إلى زوائد دودية لا تضر إلا إذا التهبت؛ وليس لها دواء، حينئذ سوى الاستئصال. [email protected]