03 أكتوبر 2025
تسجيلشكلت الطبقة الوسطى الحكومية مجالاً عاماً بين المجتمع والدولة، حيث أمسك الشباب المتعلم بزمام الوظيفة الحكومية في عملية تقطير واسعة انتهجتها الدولة – مديرين – مسؤولين كبار – فيما احتفظ الجيل الأول بالمناصب الوزارية وعضوية مجلس الشورى الأول والثاني، وربما الثالث كذلك، فيما كان أبناء الطبقة الوسطى يديرون العملية التنموية في البلاد. جراء ذلك احتفظ المجتمع بنمط أفقي من العلاقات مع وجود مسافة اجتماعية بينه وبين جيل الكبار الذي كان يتمتع بثبات نسبي اعتماداً على بعد تاريخي، وبعد آخر اجتماعي أو ما يسمى بالرأسمال الاجتماعي أيضا هناك مسافة بين المجتمع وبين السلطة العليا. كانت السلطة على مسافة واحدة من الجميع، فشعر المجتمع بالاطمئنان وبالتوازن، فذهب المواطن يحقق ذاته كشخصية مستقلة. فإذا كان نمط العلاقة في الستينيات هو البساطة والتلقائية، ونمط العلاقة في السبعينيات قائم على بروز قيمة العلم والتعلم، والثمانينات كذلك، شهدت استكمالاً لنمط هذه العلاقة الأفقية بين أفراد المجتمع. لاحظ هنا أن العلاقة في تلك الفترة كانت أقرب الأوقات إلى كونها علاقة قائمة على الإنتاجية، وذلك لبروز قيمة المتعلم والعلم فيها أكثر من أي وقت مضى، وشروع الدولة في عملية التقطير بناء هذه القيمة. في التسعينيات ونتيجة للظروف والتحديات المحيطة دخلت الدولة في مشاريع تنموية وإستراتيجية ضخمة في جميع المجالات، وأدى ذلك إلى التوسع في نشاطات ريعية، وطبيعة الريع السائلة أدت إلى اختلال في طبيعة العلاقة داخل المجتمع، وبالتالي حصل بروز واضح لنمط علاقة رأسي أو عمودي يتجه نحو مصدر الريع المباشر سواء التحاق بنشاط أو من خلال إيجاد علاقات ريعية مع ما تحتاجه هذه العلاقة من مؤهلات وقيم تختلف بالضرورة مع ما تحتاجه العلاقة الإنتاجية الأفقية، وبالتالي أنتجت مثقفاً من نوع آخر أو عممت نمطاً من الثقافة الزبائنية. خطورة العلاقة العمودية أو الرأسية أنها اختزالية، تختزل المجتمع في مركز سلطة يتوجه إليه الوعي مباشرةً، وتجعل من المصلحة الشخصية تتقدم على المصلحة العامة، وبالتالي تعمل على توقف حركة المجتمع نحو ذاته ومع ذاته بشكل كبير. ونلاحظ أن المسؤولين الكبار بمن فيهم الوزراء وأعضاء مجلس الشورى في السابق أيام سيادة نمط العلاقة الأفقية كانوا أكثر قرباً وحضورًا وفاعلية في المجتمع مما هم عليه اليوم. يظهر أن سرعة تحرك الدولة ووضع أهداف إستراتيجية كبرى وطموحة واستخدام الريع بشكل كبير، لتحقيق ذلك أدى بروز هذا التغير في العلاقة من النمط الأفقي إلى النمط العمودي الرأسي. اليوم يواجه مجتمعنا تحديات كبيرة، نعيش كثافة سكانية غير مسبوقة، نعيش حدثاً عظيماً غير مسبوق في تاريخ المنطقة العربية بأسرها"كأس العالم"، أمامنا انتخابات لمجلس شورى لأول مرة في تاريخ البلد، نعيش ثورة اتصالات غير مسبوقة، تأتي على الأخضر واليابس. ثمة فوضى في نمط العلاقة نتيجة كل هذا، وبالتالي لغة حوار شبه معدومة، وتراجع العلاقة الأفقية أمام تيار العلاقة العمودية الغالب، وعودة الهوية الشخصية على حساب الهوية السردية التي كانت سائدة أيام الفرجان الطبيعية التي كانت قائمة من قبل، وتراجع إمكانية إقامة مجتمع مدني حر عن ما كانت عليه فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. كيف يمكن أن نقيم نمط علاقات يحفظ لنا هويتنا ووسطيتنا وفي نفس الوقت يحفظ للمجتمع مكتسباته التاريخية وللمواطن القطري مركزيته؟. أصبح هناك سباق واضح لإقامة علاقات عمودية مباشرة مع مصدر الريع سواء فرداً أو جهة أو مؤسسة من الجميع من المواطن والمقيم كذلك، وبالتالي لم تعد هناك مسافة اجتماعية تحفظ للمجتمع استقراره وتوازنه. ما العمل؟ كيف يمكن إعادة نمط العلاقات الأفقية المتوازنة في المجتمع وما أهمية وجود مثل هذه العلاقة للفرد وللمجتمع وللدولة؟ 1- العلاقة الأفقية مصدر أساسي ورئيسي في بناء إرادة مجتمعية، ليست هناك إرادة للمجتمع دون وجود علاقة سليمة بين أفراده. 2- لأنها سمة من سمات وجود الطبقة الوسطى في المجتمع التي هي صمام أمان توازن المجتمع ومستودع القيم فيه. 3- لأنها أساس لقيام مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني الذي يسعى كل مجتمع لقيامه كوسيط بينه وبين الدولة، حيث الفرد أمام الدولة مباشرة يساوي صفراً كبيراً. اليوم العلاقات الأفقية في المجتمع تتلاشى أمام العلاقات التي أنشأها الريع الاقتصادي، التي يبدو المجتمع من خلالها وكأنه يقف على رأسه إلى قدميه، وبالتالي يتراجع مفهوم القيمة المعنوي أمام مفهوم القيمة المادي الآني. على كل حال لا يمكن إخفاء تأثر الدولة بما يتعرض له العالم من نزعة استهلاكية عارمة وجارفة تحول معها الإنسان إلى مستهلك دائم لا مجال لاشباع نهمه، وتحولت الحاجة المحدودة لدى الأفراد إلى رغبة لا تشبع، إلا أننا كمجتمع وكمثقفين لابد لنا من دور في إذكاء الوعي لإعادة الاعتبار إلى الإنسان كقيمة وإلى العلم كقيمة، كما على الدولة مسؤولية عظمى في فك الارتباط بين الريع كوسيلة وبين استقرار المجتمع والحفاظ على جوهره التاريخي والاجتماعي كغاية. لا يمكن أن تستقر علاقتك بالآخر قبل أن تستقر علاقتك بنفسك، وبالتالي لا يمكن أن يستقر المجتمع دونما علاقات حقيقية قائمة على فكرة الاستقرار لا فكرة الغنيمة. ولن يتحقق ذلك إلا بوجود علاقات أفقية سليمة بين جميع مكوناته، وإعادة طرح قضية الوعي نحو أسئلة المجتمع، لا سؤال الفرد على المجتمع أن يعيد ترتيب أوراقه وليساعد الدولة حيث وعي الدولة لا يكفي دون وعي المجتمع. يتبع [email protected]