18 سبتمبر 2025

تسجيل

يسب الريح والجدار

21 يوليو 2013

إن الشخص الغضوب كثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب شتى، فقد يسب الحمار إذا جمح أو نفر كما يسب الجدار وقد يكسر آلة يعجز عن قضاء حاجته بها، بل إن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نازعته الريح عباءته فلعنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنها فإنها مأمورة، مسخرة وأنه من لعن شيئاً ليس بأهل رجعت اللعنة عليه".  كما لعن رجل ناقته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم".. وسيئات الغضب كثيرة والنتائج المترتبة عليه كثيرة ولذلك كان ضبط النفس عند الغضب دليل قدرة محمودة وتماسك كريم، فقد روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وما تعدون الصرعة فيكم قالوا الذي لا تصرعه الرجال قال: ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغضب أحياناً غير أنه ما تجاوز حدود التكرم والإعفاء ولا يقول إلا حقاً في الرضا والغضب وأنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة دين الله فينتقم لله، حتى أن إعرابياً من الذين قال الله فيهم: (الأعراب أشد كفراً ونفاقا وأجدرُ ألا يعلموا حدود ما أنزل الله...) التوبة: 97 قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد في جوابه على هذا الإعرابي الجلف أن بيَّنَ له ما جهله، ووعظه فقال له: "ويحك فمن يعدل إن لم أعدل؟ خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل". فكيف يضيق صدر المعلم الكبير بهذيان هذه النماذج من أمثال هذا الأعرابي وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه هذا الدرس ليعلموه إلى الأجيال اللاحقة إرادة أن يعلمهم الأناة وضبط النفس، فقد روي أيضاً أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه شيئاً: فأعطاه ثم قال له: أحسنتُ إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه ليوقعوا فيه، فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا، ثم قام ودخل منزله فأرسل وزاده شيئاً ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم أحسنتُ إليك؟ قال نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فإنك قلت ما قلت أنفاً وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك قال: نعم، فلما كان من الغد جاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي، أكذلك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فناداهم صاحبها فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقلتموه دخل النار".  إن هذا المعنى يفسر لنا حلم الأنبياء وانظر إلى هود عليه السلام وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى التوحيد لله. قالوا: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (*) قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (*) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) الأعراف 66-67- 68 وقد جاء الإسلام يحد من هذه النزوات ويقيم أركان المجتمع على العدل والرحمة، فإن تعذر العدل فلن تتحقق هذه الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غريزة الغضب وأن الكثير من النصائح النبوية المسداة للعرب كانت تتجه إلى هذا الهدف حتى اعتبرت مظاهر الطيش انفلاتاً من الإسلام وانطلاقاً من القيود التي ربط بها الجماعة. استمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يقال له جابر بن سليم: "لا تسبن أحداً"، يقول جابر: فما سببت بعد حرا ولا عبدا ولا بعيراً ولا شاة، قال: "ولا تحقرن شيئاً من المعروف أن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه". وأن من الناس من لا يسكن عنه الغضب فإذا مسه أحد ارتعش كالمحموم وأخذ يلعن ويطعن وهو محسوب على الإسلام والإسلام بريء من هذه الخلال العكرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء". واللعن من خصال أناس لا يصح انتماؤهم إلى الإسلام فالذي يجب أن يكون عليه المسلم هو أن يتنزه عن لعن غيره ولو أصابه منه الأذى الشديد فقد حرم الإسلام المهارات السفيهة وتبادل السباب بين الخصوم فكم من معارك تبذل فيها الأعراض وتخرج من أفواه المتنازعين الشتائم المحرمة على الحرمات العزيزة وملاك النجاة من هذه المنازعات الحادة تغليب الحلم على الغضب وتغليب العفو على العقاب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم عيينة بن حصن نزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر إذ كان القراء أصحاب مجلس أمير المؤمنين عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً فقال عينية: يا ابن أخي استأذن لي على أمير المؤمنين فاستأذنت له فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله يقول لنبيه: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) الأعراف 199 وأن هذا من الجاهلين، فو الله ما جوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافاً عند كتاب الله. اللهم اجعلنا كذلك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين