16 سبتمبر 2025

تسجيل

الديون أم الحريات؟ (1)

21 أبريل 2015

عندما صاح القائد العربي الشهير مخاطبا جنوده: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس من مفر، إلا الصبر أو النصر. لم يبق جندي واحد شاهد حرق السفن إلا ألقى بنفسه بكل قوة وحماس في أتون المعركة حتى حالف النصر الجنود العرب.الصورة نفسها تتراءى الآن، بحيث يمكن القول لجميع الدول المدينة (عربية وغير عربية): الحريات والتنمية أمامكم، والديون الخارجية خلفكم، وليس من مفر، إلا تنمية بلادكم أو الخضوع للمديونيات وفق شروط صندوق (النكد) الدولي المجحفة.والواقع أن موضوع المديونية قد شغل العالم كله، وعقدت حوله مؤتمرات وندوات حاول فيها كل طرف أن يدافع عن مصلحته ويكون الطرف الخاسر دائما هو العالم النامي.لقد اضطرت الدول النامية أن تتجه إلى صندوق النقد الدولي بعد أن وجدت نفسها في مأزق خطير، فهي من ناحية تورطت في ديون كبيرة ومشاريع إنتاجية ضخمة، بينما نقصت حصيلتها من العملات الأجنبية أمام تراجع أسعار صادراتها التقليدية.وبدأت تظهر معادلات صندوق النقد الدولي الداعية إلى قيام هذه الدول بتصويب أوضاعها الاقتصادية. وتتلخص السياسة التي يشترط الصندوق تطبيقها من قبل الدول المدينة في تخفيض أسعار صرف العملات المحلية وإزالة المعونات والدعم، وتقليل الإنفاق الحكومي، ودعم القطاع الخاص، والتخلي عن كل السياسات التجارية الثنائية. ولما قامت بعض هذه الدول بتبني هذه الإجراءات تحت الضغط عليها بتسديد ديونها، أو اضطرارها للحصول على قروض جديدة من أجل شراء سلع تموينية، حصلت فيها اضطرابات سياسية عنيفة، من أشهرها مصر عام 1977، السنغال عام 1983 وآخرها فنزويلا عام 1989.العلاقة بين مشكلة الديون والتنمية الاقتصادية: أصبحت أزمة المديونية تشكل عبئا ثقيلا على اقتصادات الدول العربية والإفريقية ونجمت عنها آثار اقتصادية واجتماعية أجملتها عروض الباحثين في عدة مظاهر، منها:أ- الأثر السلبي على المدخرات المحلية، نظرا لأن تدفق العون بسعر فائدة منخفض في بادئ الأمر أدى إلى عدم تحفيز القطاع الخاص للادخار، كما شجع توجيه الصرف نحو الاستهلاك غير الإنتاجي.ب- الانخفاض والاضطراب في معدلات النمو: فقد أدت الالتزامات لخدمة الدين إلى تحويل قدر هائل من موارد هذه الدول من الاستخدام لأغراض تنموية إلى سداد جزء من الديون المستحقة.ج- التدهور في ميزان المدفوعات: حيث أسهمت المديونية الكبيرة في تفاقم حدة أزمة ميزان المدفوعات.د- عدم القدرة على تعديل الهياكل وإصلاح السياسات، وذلك بسبب تحويل قدر كبير من الموارد لخدمة الدين.هـ- تمزق الهياكل الاجتماعية: أدت الالتزامات الناتجة عن الدين إلى تخفيض برامج الاستثمارات في المجالات الاجتماعية.و- عدم توفر شروط الجدارة الائتمانية: فقد ترتب على تفاقم أزمة الديون إعلان كثير من هذه الدول غير جديرة بتلقي العون الأجنبي.أسباب ضعف التنمية واللجوء للاستدانة: ويذكر الاقتصاديون أسبابا كثيرة لتدهور اقتصادات الدول النامية والمتخلفة التي تلجأ للاقتراض ومعظم هذه الأسباب يعود إلى السياسات الخاطئة لتلك الدول التي ينجم عنها تدهور التنمية، وقد يمكن إجمال الأسباب التي ذكرها الاقتصاديون للاستدانة، في:1- التدهور في المدخرات الداخلية للدول المدينة.2- ضعف القدرة على إدارة الديون وعدم تحويلها إلى مشاريع استثمارية.3- عدم القدرة التفاوضية لهذه الدول وقبولها بالشروط المجحفة.4- تعاقب الكوارث الطبيعية، كالجفاف والتصحر والتي تعاني منها كثير من الدول.5- تدهور أسعار المواد الأولية.6- إجراءات الحماية التي تمارسها الدول الغنية ضد صادرات الدول الفقيرة.7- هروب رؤوس الأموال من الدول الفقيرة.8- الشروط المقترنة بقروض صندوق النقد الدولي والتي تتمثل أحيانا فيما يشبه "شهادة حسن سيرة وسلوك" بالنسبة للدول المقترضة.9- طلب الدول المانحة للقروض الإشراف على المشاريع التي تغطي تمويلها تلك القروض، مما حدا بالدول المحتاجة إلى التخلي عن فكرة الاقتراض من الدول الغنية والاتجاه نحو المؤسسات الخاصة والتي تطلب فوائد مرتفعة عما تمنحه من قروض.وبالنسبة للدول المدينة تمثل القروض تكلفة مرتفعة على اقتصاداتها، وضغطا متزايدا على توازنها الاجتماعي، واضطرابا في أمنها السياسي. وقد وصل الكثير من هذه الاقتصادات إلى حالة من الركود، ووقعت فريسة للحلقة المفرغة، فهي مطالبة بأن تتبنى إجراءات تصحيحية في المدى القصير لضمان قدرتها على التسديد، ومن ناحية أخرى فإن التصحيح له كلفة قد تعيق القدرة على النمو في المدى المتوسط والطويل. وقد هبط معدل النمو الاقتصادي في معظم الدول النامية إلى نسبة تساوي بالكاد معدل الزيادة السكانية. كما أنها تعاني من نقص فادح في دخلها من العملات الأجنبية، مما يعيق قدرتها على استيراد حاجياتها الضرورية ومستلزماتها للتصنيع والتنمية.أما بالنسبة للدول المقرضة أو الدائنة، فرغم أنها في بداية الأمر أبدت موقفا متشددا تجاه قدرة الدول النامية على تسديد قرضها، إلا أنها رأت في نهاية الأمر أن التمادي في عدم الاستماع لشكاوى الدول الدائنة قد ينطوي على مخاطر كبيرة على مصالحها. وأول هذه الأخطار هو خشية أن تصبح هذه الديون حائلا دون زيادة الصادرات والمبيعات الخارجية وهذا ستترتب عليه انعكاسات اقتصادية واجتماعية داخل البلدان المصنعة.ولا يجب تجاهل خطورة تمرد بعض الدول المدينة ورفضها تسديد هذه الديون في حالة عدم إيجاد حلول تتماشى ووضعية هذه الدول، وقد ظهرت بوادر هذا التمرد في تهديدات بعض زعماء أمريكا اللاتينية بالامتناع عن تسديد الديون.الصندوق هو السفينة التي يجب أن تُحرق: ولم يكن أمام الدول المدينة إلا اللجوء إلى صندوق "النكد" الدولي الذي لا يتمثل خطره في منح القروض فقط، بل يتعدى ذلك إلى إصداره شهادات "حسن السير والسلوك" للدول التي تتبنى وصفاته المجحفة لكي تستعين بتلك الشهادة على الاقتراض من الدول الغنية التي تتفنن في إذلال الدول الفقيرة المقترضة. وقد ضاقت البلدان النامية ذرعا بالضغوط التي تمارسها عليها البلدان الصناعية الغنية، ولذلك تتالت الصرخات وكان آخرها ما عقده الـUNICTAO في مؤتمره في يوغسلافيا- بلجراد عام 1983 وقد طالب بإلغاء الديون المستحقة على مجموعة الدول الفقيرة والأقل نموا وكانت قد سبقتها مبادرة أروشا ARUSHA INITATIVE التي عقدت بتنزانيا عام 1980.وكذلك على الصعيد العربي عقد مؤتمر في طرابلس بليبيا – مؤتمر الفكر العربي حول أزمة المديونية عام 1986.وقد خرج المؤتمر بعدة علاجات تتعلق بحل هذه الأزمة، ومنها:1- تقليص العجز في الموازين العامة.2- إدارة ميزان المدفوعات بمنتهى الحزم.3- تقويم أسعار صرف العملات المحلية.4- إلغاء سياسة الدعم الاستهلاكي.5- تشديد القيود على اقتراض القطاع العام من الخارج وتخفيضها على اقتراض القطاع الخاص بدون كفالة الدولة.6- تشجيع الاستثمارات العربية المباشرة.7- التوقف عن الاقتراض من المصارف الدولية على أسس تجارية.8- السماح بمزيد من الحريات والديمقراطية وحرية الصحافة بكشف ومكافحة الفساد الذي يتغطى بالاقتراض.9- تنشيط دور صندوق النقد العربي.10- تأسيس وحدة اقتصادية لإدارة الدين الخارجي.