12 سبتمبر 2025
تسجيلحيّر الموقف الأمريكي من الربيع العربي، الدنيا كلها، حتى صار سابقة في المواقف الدولية، إذ جرى اتخاذ موقف هو الأشد غموضا في معالجة وضع ملتهب كله، بالوضوح إلى درجة الكراهية، وبالضجيج إلى أعلى درجات الاقتتال والتدمير والفوضى والمعارك ذات الطبيعة الثورية والمناطقية والطائفية الداخلية والإقليمية. هذا الغموض الأمريكي تجلى في إطلاق تصريحات رسمية والقيام بخطوات عملية، من أعلى رأس في الإدارة إلى المتحدثين الإعلاميين الأمريكيين والمختصين والخبراء، تفيد وتلح على أن أمريكا تقف في الصف الأول من الداعمين والمدافعين عن الربيع والديمقراطية، وإطلاق تصريحات أخرى واتخاذ خطوات أخرى، تناقض الأولى تماما، إعلاميا وعمليا، حتى كاد البعض يقول إن هناك من يشرف على إطلاق التصريحات وتحديد المواقف ليجعلها تأتي مناصفة بين الموقف وعكسه والتصريح وضده والإجراء العملي والإجراء المضاد، وهو ما وفر لجميع المشتبكين في صراعات وأزمات الحالة الجارية في كل وقت وتجاه أي مشكلة، مادة غنية وثرية تجعل كل منهم قادرا على تفسير وإعادة تفسير الموقف الأمريكي حسب ما يخدم مصلحته، سواء بإظهار خصمه عميلا متعاونا مع أمريكا أو بإظهار أنه مستهدف من أمريكا وأن مواقف أمريكا المرتبكة تجاهه تأتي من واقع أنه أجبر أمريكا على احترام دوره ومكانته باعتبار أن أمريكا لا تحترم إلا الأقوياء. وهكذا لو تابعت التقديرات الصادرة من مختلف أطراف الصراع المشتبكة في الربيع العربي بشأن الموقف الأمريكي، تجدها تحوي كل التفسيرات والاحتمالات والمآلات التي أبدعها العقل البشري في التفسير والفلسفة من أدنى سلمها الذي وصف الربيع كله بالمؤامرة الأمريكية وبعدها نقطة، مرورا بأن أوباما مسلم متخفي وأنه داعم لكل حركات الربيع من وراء ظهر إدارته وأنه ينفق المليارات لأجل تحقيق أهدافه الشخصية الخفية تلك، إلى أقصاها الذي يشدد على أن أمريكا تناصب ظاهرة الربيع العداء كليا وأنها تقف وراء كل وجميع ما يجري لإجهاض تلك الثورات.والبادي أن الموقف الأمريكي الغامض – والمتضارب - جاء قصديا ومخططا، لكي تتيح لكل من يريد أن يبدع من خياله، ما يريده من أمريكا، ويجعله مواقف صادرة عنها، فإن أراد طرف أن يقول إن الموقف الأمريكي الذي ظل مساندا للحكام السابقين قد أجبرته ثورات الشعوب على التغير، يمكنه قول ذلك وسيجد ما يستند إليه في تصريحات ومواقف الإدارة الأمريكية. وإذا أراد قادة وداعمو الثورات المضادة أن يقولوا إن أمريكا معهم وليست ضدهم أو أن أمريكا معهم فعليا وليست معهم علنيا بحكم القوانين الأمريكية أو أن أمريكا تقف ضدهم باعتبارهم من أفشلوا مؤامرتها وخطتها، يمكنه قول كل هذا ويمكنه قول ذاك، مستندا إلى موقف أو تصريح هنا أو هناك. وهكذا الحال على طول وعرض مساحة التناقض والصراع بين الأطراف المشتبكة داخليا وعربيا وإقليميا ودوليا.والحكاية أن الولايات المتحدة تدرك أنها الدبة التي تقتل من تحب، إذا استعملت جسدها وأقدمت إليه معلنة محبتها له، وأن مثل هذا الغموض تتيحه وتفترضه استراتيجية استخدام أدوات القوة الناعمة - الإعلام والدبلوماسية والضغوط الاقتصادية والاستخبارية إلخ - ولو كانت الولايات المتحدة متدخلة عسكريا ومشتبكة في حالة الحرب الجارية، لرأينا أوباما في لون وملامح جورج بوش، وكذا لأن الولايات المتحدة قد تعلمت من درس العراق أن بإمكانها أن تفعل ما تريد دون أن تكون في حالة تحيزات قاطعة تكلفها الكثير من سمعتها - إن كان بقى لها سمعة. ويمكن القول بأن الولايات المتحدة في مواقفها تحسب حسابات الأرض والمستقبل في أن واحد، وتمارس أعلى درجات الخداع تجاه الجمهور العام خشية أن يتحول أصحاب الربيع إلى فكرة، أن أمريكا عدو لهم، بما يتسبب في حشد كل هذا الجمهور الواسع لمواجهة نفوذها في الإقليم ليتحول الربيع الديمقراطى إلى ربيع مقاومة ضد الولايات المتحدة .وفي الأخير فالولايات المتحدة لم تكن أبداً مع الشعوب ومصالحها –هذا هو ملخص مواقفها تاريخيا وحاليا- بل هي منحازة فقط لمصالحها الاستعمارية، ومن يخدم مصالحها فهي معه، وإن أظهرت غير ذلك فهي تخادع وتخدع.لا أكثر ولا أقل.