11 سبتمبر 2025

تسجيل

المقومات التشريعية للحضارة الإسلامية (2)

21 مارس 2012

أولاً- العقل الذي يهتدي بوحي السماء أزعم بل أكاد أجزم أنه لا يوجد تناقض بين المنطق السليم والدين، ومن الكتب التي غيّرت حياتي بهذا الاتجاه كتاب " قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن " لمؤلفه " نديم الجسر" مفتي طرابلس في لبنان. يقول الشيخ "نديم الجسر " رحمه الله: الفلسفة.. بحرٌ ليس كالبحور، فالبحر إن وقفت على شاطئه سلمت، وإن دخلت في أعماقه غرقت، والفلسفة إن وقفت على أطرافها غرقت، وإن تعمّقت بها سلمت ". بناء على عدم وجود التعارض أزعم كذلك أن كلّ ما في دين الإسلام منطقي، ومن اليسير على العقل الإنساني – إذا كان سليماً- أن يتقبله ويقتنع به، لأن كل قضايا الدين ومقاصد التشريع، تنطلق من نقطة واحدة وهي إثبات وجود الله عز وجلّ، وإفراده بالعبادة. ثانياً- التشريع المحقق للمصالح الدين عندنا عقيدة وشريعة، والشريعة الإسلامية تنقسم إلى قسمين، عبادات ومعاملات، أما العبادات فقائمة على التسليم لله تعالى بما أمر، فنحن نعبده كما يريد، لا كما نريد، لأن غاية العبادة هي تمجيد الله تعالى وشكره، وهو من يقرر الطريقة والكيفية التي نمجّده بها. أما المعاملات فغايتها تحقيق مصالح العباد، يقول ابن القيم رحمه الله " إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ". فيستحيل أن تجد تشريعاً إسلامياً يتعارض مع مصالح الناس، ومتى وجدنا تعارضاً بين الشرع والمصالح الحلال للناس، فلنُعِد النظر ولنكرره، فلعل فهمنا للنصوص كان قاصراً، لأنه يستحيل أن تعطّل الشريعة الإسلامية المصالح الحلال للناس، ومن هنا كانت منطقية الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها مع العقل السليم، والفهم القويم. ثالثاً- العدل المؤيد بالإحسان جمع الله تعالى بين العدل والإحسان في القرآن الكريم، فقال عزّ من قائل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ). النحل/90 اعتبر ابن مسعود هذه الآية أجمع آية في القرآن فقال : (إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ) وهي ذات الآية التي عندما سمعها الوليد بن المغيرة قال لقومه: "والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته". - إحسان عمر تروي كتب التاريخ أن الفاروق عمر مرّ ذات يوم برجل كبير في السنّ من أهل الذمة يقوم على أبواب الناس يسألهم الإحسان والصدقة، فسأله عمر: ما شأنك يا رجل..؟ فقال الذمّي: لقد عجزت عن دفع الجزية، فأنا أسأل الناس حتى أجمعها وأعيل نفسي. فقال عمر (ما أنصفناك! أخذنا منك الخراج شاباً، فلما كبرت سنك خذلناك، ثم أمر أن يُعطى من بيت مال المسلمين عطاءً (راتباً) يعينه بقية حياته. إذن العدل يقتضي أن يدفع هذا الذمّي ما عليه من جزية، أسوة ببقية أهل الذمة، ولأنه قانون عام ليس فيه محاباة، هذه هو العدل، لكن عمر عامله بالإحسان ولم يعامله بالعدل، فالإحسان أعم وأرفع من العدل، العدل أن يأخذ الإنسان حقه ويعطي الآخرين حقوقهم، أما الإحسان فإن تعطي فوق ما هو عليك وما هو مطلوب منك. - العدل أساس الحكم العدل في الشريعة الإسلامية يقتضي المساواة بين الناس، فلا مجاملة ولا محاباة، خاصة في الأمور الثابتة التي لا تقبل التعديل ولا التغيير، فالحدود تقام على الجميع متى توافرت موجباتها وشروط تطبيقها، وهذا ما أرشد إليه فعل النبي مع المرأة المخزومية التي سرقت، وهي ذات نسب وحسب، فعن عائشة أم المؤمنين: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُول اللَّهِ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا). البخاري رابعاً- الحقوق المتوازنة مع الواجبات وقف عُتبة بن أبي سُفيان يوماً خطيباً في أهل مصر وقال: " لنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا " والمعنى أن الحقوق هي أساس الواجبات، وأن الشريعة الإسلامية لا تطالب الناس بالواجبات، إلا وتعطيهم في المقابل حقوقاً، فمن واجبك أن تطيع ولي الأمر، إن أمرك بمعروف، وفي المقابل فإن ولي الأمر مطالب بأن يمنحك حقوقك، من عدالة اجتماعية، وحرية رأي وتعبير، وحفظ كرامتك من أن تهان، فإذا لم تتوفر تلك الحقوق الأساسية فلا سمع ولا طاعة لحاكم لا يؤدي حقوق العباد، ولا يقوم بالواجبات المنوطة به. ونتيجة لغياب العدالة، وعدم إعطاء الناس حقوقهم، تغيرت مفاهيم الحياة وأصبح شعار أغلبية الناس "كن أول من يأخذ وآخر من يدفع". - أعطني حقي لأقوم بواجبي قلنا إن الحقوق هي أساس الواجبات، والقصة التالية توضح بجلاء معنى هذه العبارة، فتروي كتب التاريخ أن بُعِثَ إلى عمر بحلل (أثواب) فأعطى كل مسلمٍ ثوباً، وأخذ هو ثوباً واحداً، لكن عمر كان طويلاً. عملاقاً، كبير البنية، ما كفاه ثوبٌ واحد! فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك مع ثوبي؛ لأني رجل طويل، ثوبك الذي هو حصتك مع المسلمين ألبسني إياه. فقال عبد الله: خذ ثوبي. فلبس ثوبين -تغير الشكل، كيف يلبس ثوبين والمسلمون لبسوا من ثوب واحد- فبدأ الخطبة، وقال: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا، فقام سلمان الفارسي من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع، فتوقف واضطرب المسجد، وقال: ما لك يا سلمان؟ قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً ونسمع ونطيع. قال عمر: يا عبد الله! قم أجب سلمان، فقام عبدالله يبرر لـسلمان، وقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي، فبكى سلمان، وقال: الآن قل نسمع. وأمر نطع ". فرسالة سلمان باختصار: إذا أردت مني واجبات فأعطني حقوقي، هكذا أفهم حضارة الإسلام وهكذا أتخيلها وأتصورها، وليس على طريقة علماء السلاطين الذي يطالبون الناس بطاعة حكامهم، على ما هم عليه من ظلم واستبداد وفجور، وأكل لحقوق الناس، ونهب لمقدرات الأمة، وتعطيل لشرع الله جلّ وعلا. خامساً- وازع السلطان المكمّل لوازع الدين الأصل في الإسلام أن الوازع هو الدين، أما السلطان (الأمن والقانون والجيش) فمكمّل ومعين للشرع على تحقيق المقاصد، وليس بديلاً له، لأن الدولة في الإسلام تقوم على ركنين أساسيين هما التقوى والقانون، وهناك تكامل بينهما، فأحياناً يكون تأثير الحاكم المسلم في حياة الناس أكثر من الأحكام الشرعية، خاصة عندما يضعف الوازع الديني في نفوس الناس، بمعنى أن الحاكم المسلم يمنع اقتراف المحارم، ويحول بين الناس وبين ارتكاب المحرمات والفواحش، فينزجر لذلك ضعيف الإيمان مخافة العقوبة. - قانون وتقوى القانون وحده لا يقود الناس، ولا يضبط حياتهم، بل لا بد مع القانون من التقوى التي تأمر الناس بالخير، وتنهاهم عن الشر، وتحثهم على الإحسان، وجد القانون أم لم يوجد. واقع المسلمين اليوم لا يمثل الإسلام، وفهم بعض العلماء لا يمثل الإسلام، وتطبيق بعض الدول لأجزاء من الشريعة لا يمثل حقيقة الشريعة ومقاصدها، والإسلام لا يزال قادراً على تقديم منهج يسعد البشرية، منهج لا يكتفي بالضمير وحده ولا القانون وحده، إنما يدمج بينهما (التقوى والقانون) لإقامة دولة العدل والإحسان.