11 سبتمبر 2025

تسجيل

من سيحكم عالم المستقبل؟

21 يناير 2021

خلال الأيام القليلة الماضية، تتابعت الأحداث بشكل متسارع وتراكمت وكأنها تضع خاتمة للعام المنصرم وما حمله للعالم من تحولات وتغيرات و"مآسٍ"، وأكثر ما أثار الرأي العام العالمي خلال الأيام الماضية، قضية منع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "السابق" دونالد ترامب من التغريد وإيقاف حسابه الشخصي بشكل نهائي من على منصة تويتر الشهيرة، تبعتها مواقع وسائل التواصل الاجتماعي التي قامت هي الأخرى بوقف حسابات ترامب ومنعه من مخاطبة جمهوره عبرها. أعادت تلك الأحداث إلى ذاكرتي تفاصيل رواية شهيرة قرأتها منذ زمن للكاتب جورج أورويل نشرت عام 1949، وكانت تحمل اسم" 1948"، وتصور تلك الرواية دولة "إيرستريب" المتخيلة التي يحكمها "الأخ الكبير" ويسودها الفساد والقمع وتزوير الحقائق في إسقاط على انتشار الاشتراكية وتمكنها من مفاصل العالم. بطل الرواية هو "وينستون سميث" موظف في وزارة "الحقيقة" وأحد أعضاء الحزب الحاكم، تتلخص وظيفة سميث في تغيير الحقائق وتمجيد الأشخاص أو"محوهم" من الواقع وإعادة صياغة المقالات القديمة التي سبق نشرها لتتوافق مع الحالة الراهنة لبلاده التي تخوض حروباً لا تهدأ مع جيرانها، مسترشدة بشعارها" الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة". وتصور الرواية الحزب الحاكم وهو يقوم بمراقبة المواطنين على الدوام وطوال الوقت عبر ميكروفونات مخفية مثبتة في كل منزل، ويخاطبهم عبر شاشات مثبته في جدران منازلهم لا يمكن إطفاؤها، حيث يقوم الحزب عبرها ببث الدعاية الحزبية والإعلانات المهمة، ويهدد المتذمرين من النظام ويرصدهم. استرجعت تلك الصورة التي أبرزتها الرواية بحبكة جميلة، وقارنتها بالسطوة والقوة والسلطة التي تمتلكها وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا الراهن وعلى رأسها "تويتر"، والقدرة الكبيرة لدى تلك الوسائل في التأثير على الرأي العام وتوجيه مساره، وكيف استطاعت تلك المواقع من إخفاء شخص بحجم رئيس أقوى دولة من على الوجود "الافتراضي"، والمفارقة هنا أن رواية "1948" تصور نهاية العالم في ظل حكم اشتراكي متخيل في حين أن عالم اليوم المشابه إلى حد ما لأحداث تلك الرواية هو عالم أفرزته الرأسمالية والحرية والانفتاح، وتساءلت هنا "من سيحكم عالم المستقبل؟". تفسر نظرية صراع الطبقات الاجتماعية للفيلسوف كارل ماركس أسس التوترات والصراعات في مجتمع منقسم إلى طبقات، ويرى ماركس أن صراع الطبقات هو المحرك الرئيس للتغيرات الاجتماعية في سياق التاريخ، حيث يتولد عن هذا الصراع طبقات جديدة تتصارع هي الأخرى فيما بينها في حركة مستمرة، وبحسب النظرية الماركسية فإن الصراع بين الطبقات لا يقضي على تناقضاتها بل يعيد تشكيلها. في العالم الرأسمالي الحديث تمثل البرجوازية رأس الهرم في السلطة، في حين تقع طبقة "البروليتاريا" أو الطبقة العاملة على الجانب الآخر من الصراع، وفي الوقت الذي استطاع رجل أعمال وهو ترامب أن يحكم أقوى دولة في العالم، لم يكن الأمر كذلك على الدوام، فقبل الثورة الفرنسية التي تسلقتها البرجوازية واستفادت منها، كان الحكم في فرنسا حكراً في يد طبقة النبلاء تساندها سلطة الكنيسة، ولم يكن للبرجوازية الناشئة آنذاك أن تصل إلى الحكم لولا الصراع المحتدم بين الطبقات، والسؤال هنا: هل نشهد الآن صراعا بين البرجوازية الكلاسيكية وطبقة جديدة مؤلفة من ملاك شركات التكنولوجيا والمعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهل نحن بصدد تبلور تلك الطبقة من النخب التكنولوجية التي تمتلك مقومات مختلفة ولديها قوة هائلة في عالم جديد تسوده التكنولوجيا وتسيطر عليه تقنية المعلومات؟ ومن يعلم ربما يكون لتلك الطبقة أسس وقواعد مغايرة لما نعرفه، فلا يغني امتلاك رأس المال ليتمكن أي شخص من الولوج إليها أو أن يصبح أحد أباطرتها، بل لابد أن يكون له "مواطنون" واتباع ومريدون، وهو ما تحققه تكنولوجيا المعلومات!. يمكننا التدليل على هذا الواقع بالنظر إلى شركة "أمازون" التي بدأت كموقع لبيع الكتب على الإنترنت، ثم ما لبثت أن أصبحت أكبر متجر لبيع التجزئة في العالم، تبيع كل شيء وتنافس في أسواق بعيده وتمتلك أساطيل من طائرات الشحن تجوب العالم، أما صاحبها فلا يخفى على أحد إنه ثاني أغنى رجل في العالم! بعد أن نُحي عن المركز الأول الذي تصدره لسنوات، وحتى عندما حورب وأريد ابتزازه، تم هذا الأمر عبر تقنية المعلومات عبر اختراق هاتفه! نعم إنه مستقبل المعلومات والتكنولوجيا. يدور الحديث منذ مدة طويلة في الأوساط السياسية والاقتصادية، عن أن العالم متوجه نحو تبلور نظام عالمي جديد أو حكومة عالمية موحدة، وبالرغم من اكتساء تلك الفرضية بنظرية المؤامرة، إلا أن تلك الأوساط ترى بأن الخطوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بتأسيس المنظمات الدولية والدخول في تحالفات إقليمية وعالمية واتفاقيات التجارة الحرة، ما هي سوى مقدمة لتحقق تلك الصورة، وبعيداً عن تقييم صحة تلك الفرضية من عدمه، لا يمكننا أن ننكر أن موازين القوى العالمية تغيرت بسبب القفزات التكنولوجية الهائلة، وعلى وجه الخصوص خلال السنوات القليلة الماضية، أما الحروب التي كانت تخاض في أرض المعارك، أصبحت تحسم عبر الطائرات المسيرة التي توجه عن بعد بفضل التكنولوجيا الحديثة، ولم تعد اللياقة البدنية والجسمانية شرطاً لأن تكون طياراً مقاتلاً بارعاً، بل يكفي أن تحسن" اللعب" عن بعد لتحسم الحرب لصالحك، والانتخابات وصناديق الاقتراع أصبحت توجه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحسمها درجة تأثير المرشحين في تلك المواقع. وجدت دراسة أجرتها شركة "zignal laps " أن الحديث حول تزوير الانتخابات الأمريكية الأخيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، تراجع بنسبة 73% بعد أن قامت تلك المواقع بإيقاف حساب دونالد ترامب من على منصاتها، وتساءل الكاتب Dean Obeidallh في مقال منشور على موقع CNN عما كانت ستؤول إليه الأمور لو أن تلك المواقع منعت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في وقت مبكر من استخدام منصاتها للتشكيك في نزاهة الانتخابات الأمريكية، وهل كان ذلك سيؤثر في آراء الناخبين؟ والأهم من ذلك، هل كان هجوم السادس من يناير على الكونغرس سيقع لو أن تلك الخطوة تم اتخاذها مسبقاً؟ تكشف تلك التساؤلات المشروعة مدى الإمكانية التي وصلت لها تلك المنصات والمواقع وشركات التكنولوجيا، كما أنها تنبئ بالقوة التي ستبلغها مستقبلا، رغم البراءة التي تبدو عليها والأهداف النبيلة التي تعلنها، فقد كشفت الإحصائيات أن عدد مستخدمي منصة تويتر تجاوز عددهم 330 مليون مستخدم، في حين أن 83% من حكام الدول لديهم حساب على تويتر، وخلال العام 2017 تم إنفاق 70 مليون دولار أمريكي على الإعلانات في المنصة نفسها، كما تتجاوز القيمة السوقية لشركة تويتر 36 مليار دولار، فيما تجاوزت قيمة فيسبوك السوقية 70 مليار دولار. أما شركة أمازون فقيمتها تتجاوز الـ280 مليار دولار! وبلا شك فإن تلك الأرقام تفوق قيمة الناتج الإجمالي المحلي لكثير من دول العالم، بل إنها تفوق الناتج الاجمالي المحلي لدول مجتمعة! وإذا ما أخذنا في الاعتبار التأثير الكبير لتلك المواقع والشركات التكنولوجية الذي يفوق تأثير دول عظمى ويزعزع مكانتها، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم عن جدوى الحديث عن تسييس تلك المواقع لمنصاتها واقتحامها للمعترك السياسي، ولماذا علينا أن نفترض أن تنأى تلك الشركات العابرة للقارات بنفسها عن السياسة ونظن جازمين أنها ستبقى دوماً على الحياد دون أن تؤثر في العالم وتسوقه إلى ما تريد؟ أليست هي من يقوم برسم السياسات ويرسي قواعدها؟ إن التكنولوجيا الحديثة ستشكل مستقبل العالم بلا شك، وإذا كان الأمر كذلك ألا يعد منطقياً، أن تسعى تلك الشركات لتجيير العالم لصالحها؟ وتشكيله كما تريده أن يكون! وأين موقعنا نحن المستخدمين من الإعراب؟ هل سنستمر في الاعتراض على استخدام بياناتنا واستغلالها، في الوقت الذي تسمع وترى تلك المواقع كل ما نفعل، ثم تقترح علينا المنتجات التي تحدثنا عنها خلسة بيننا وبين أنفسنا، وتبيعنا وتشترينا كسلع في سوق النخاسة التكنولوجي! ألا يكفي أن يقترح عليك موقع فيسبوك أصدقاء الطفولة الغابرة الذين سقطوا من الذاكرة دون أن تفصح عن الخوارزميات المستخدمة في تحديد ذلك الصديق العتيق! أليس من الأجدر بنا أن نتساءل هل ستحكم تلك الشركات العالم؟ وكيف سيكون شكل العالم المحكوم من مواقع التواصل الاجتماعي؟