19 سبتمبر 2025
تسجيللم يكن مجرد مونديال رياضي، لقد كان أكبر من هذا باعتراف الجميع، كان فرصة لتلاقح ثقافات وأفكار ورؤى وأديان، كان فرصة ذهبية ليتعرف العالم كله على بعضه بعضاً، كان فرصة لتعرف العالم أيضاً على الثقافة العربية والإسلامية من أرضها ومنبتها، فكانت مفاجأة للكثيرين، الذين غلب عليهم الانطباع الاستشراقي الذي نقل إليهم واقع العالم العربي والإسلامي. لقد كان مونديالاً ثقافياً وإنسانياً قبل أن يكون رياضياً، وهو ما دفع صحفاً أجنبية عريقة كالغارديان لتصفه بأنه ملهم للغرب بشكل خاص، بعد أن رأى الكل القيم العربية والإسلامية تشعُّ عليه من قطر، التي أتعبت من بعدها ممن ستقوم لاحقاً بتنظيم مثل هذه المونديالات في المستقبل. كانت الرسائل الإنسانية مفعمة بالمحبة والمودة، والتلاحم والترابط الأسري ونحن نرى اللاعب المغربي يحرص على الرقص مع والدته على أرض الملعب، فكانت رسالة واضحة لا تخطئها عين بأن قيم الأسرة والعمل الجماعي هو الناظم الذي ينبغي أن يكون لحركة الشعوب، وليس الفردانية والأنانية والشواذ، فحضور الأمهات في ملاعب الأسود والخيول الأطلسية كان أقوى عناصر التشجيع، فالحبال السِّرية بين الأبناء والأمهات بدا أنها متواصلة، لم تنقطع، إلاّ أن الفرق بين الحبل السري يوم الولادة، أنه كان لتغذية الوليد، أما اليوم فلتبادل الحب والدعم والتشجيع، وحين حلّت ضربات الجزاء المغربية، كان الفريق كله يكرر سورة الفاتحة بصوت عالٍ، ليرسل رسائله للعالم كله،عن قيمه الدينية التي لم تغب حتى في الرياضة. يحدث هذا في الوقت الذي كانت فيه الحكومة القطرية تصرُّ على عدم رفع إشارة الشواذ في الملاعب القطرية، بل وتحويل الرحلة الألمانية إلى عُمان ليدخل الفريق الألماني إلى قطر، على متن طائرة لا تحمل إشارة الشواذ، كل هذا عزّز قيماً إنسانية، وليس قيماً عربية وإسلامية فحسب، وإن كان انتكاس الفطرة المؤقت وارتكاسه اليوم دفع البعض إلى الدعوة للشواذ. وحين تعهدت وزيرة الرياضة الفرنسية برفع شارة الشواذ إن فاز فريقها في المونديال، ردّت قطر بذكاء وبلفتة معبرة جداً، بخلع العباءة العربية، والبشت القطري على قائد الفريق الأرجنتيني ميسي، ليكون بديلاً عما تمنته الوزيرة الفرنسية، فبدا أن المرفوع هو الثقافة العربية والإسلامية، التي هيمن ذكرها وحديثها على المونديال حتى فوز الأرجنتين. لقد تفاجأ أحد المشجعين الغربيين، بقصة تبدو لنا عادية جداً، ونحن نستمتع بها على مدار اليوم الواحد، حين عاد إلى بريطانيا وهو يغرد عن الشطّافة في الحمامات، بينما كما هو معروف يحرص الغربيون على الاستبراء بورق الحمام، وبدأ المغرد البريطاني يبشر بها ويدعو إليها، وكأنه قد اكتشف رأس الرجاء الصالح أو العجلة من جديد، كل هذا يؤكد مدى حاجة العالم وثقافاته وحضاراته أن يسمع من بعضه مباشرة، ويؤكد بالمقابل فشل الاستشراق والإعلام الغربي في نقل حقيقة العالم العربي والإسلامي إلى المواطن الغربي، فإن كان في قضية بسيطة كهذه لم يستطع أن ينقلها، أو فشل في نقلها، فهو في القضايا الفكرية والعقدية والسياسية والحضارية أفشل. ما أجمل أن يحضر الطب في هذا المونديال، فينبري طبيب أسنان معلناً عن استعداده تركيب أسنان لمشجع بدا متحمساً جداً في مباريات المونديال، فكان التركيز الإعلامي على أسنانه، فسخر منه البعض، لينبري ذلك الطبيب الإنسان قبل أن يكون طبيباً معلناً استعداده معالجته مجاناً، وبابتسامة هوليودية، كل هذا لتكتمل صورة الرسائل الإنسانية وتكتمل معها مساهمة الجميع في إرسال الرسائل الإنسانية، التي هي بالأساس والأصل دعوة إلى الدين الإسلامي، لكن بدا الأجمل من هذا كله أن يقف أطفال بلباس عربي، يعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وهم يوزعون العطر على الضيوف، وفي داخل كيس الهدايا باركورد يمنح المهدى إليه الدخول للتعريف بالدين الإسلامي، إنها رسالة في غاية الروعة الإنسانية، بأن تصبح الهدية عطرين؛ عطراً مادياً فوّاحاً، وعطراً روحياً، هو عطر الرسالة المحمدية، التي نودّ أن يشاطرنا العالم معرفته بها، لنقيم الحجة على العالمين. ينتهي مونديال قطر، كما ينتهي غيره من احتفالات ومناسبات، ولكن يبقى الأثر، وتبقى معه الذكريات التي خلّفها وراءه، ويبقى معه ما حمله الضيوف الذين وفدوا على قطر من ذكريات جميلة، ومن انطباعات أجمل، فالمعرفة تراكمية، والأفكار عبارة عن تراكم معلومات، وما بُذر اليوم سيتم حصده ولو بعد حين، فإن لم يكن في الحياة الدنيا، ففي الآخرة أجل وأعظم وأفضل. وبالمحصلة فإن كانت أوربا قد فازت بالكرة، فإن آسيا وأفريقيا فازت بالقيم الإنسانية التي فاح عطرها على العالم كله من خلال مونديال قطر، أما قطر فما هي عليه بعد المونديال ليست كقبله.