14 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); الداعية إنسان في أصله.ولذا لا غرو أن يدبَّ بين جوانحه - بين الفينة والأخرى- الخوف الطبيعي.لكن أن يكون هذا الخوف حاجزًا عن الخير، أو مسيطرًا على العقل، أو حجر عثرة، أو ما يسميه العامة (بُعبُعًا) في الطريق، فهذا ليس في حسِّ المؤمن، ولا يمكن أن يسكن خلاياه.كنت أُحدث الكثير من إخواني الدعاة عند طرح طرف من هذا الموضوع وخاصة في هذا الوضع الراهن، الذي نال فيه الدعاة والمصلحون الويل والتنكيل، قائلًا: انظروا عبر التاريخ في مسيرة الدعاة الذين نصروا الأمة، ورفعوا من شأنها، وساندوها في طريق البحث عن حريتها وكرامتها وعدالتها وعيشها الكريم، ووقفوا أمام تيارات التغريب والتخريب، ها هم اليوم في المصاف الأولى في حياة الناس، وفي السلم الأول للنجاح، وهم المتقدمون عند الجماهير، والموثوقون في الفتاوى الدينية أو الاجتماعية أو حتى السياسية.المؤمن الواعي الحصيف لا يتسلَّل إليه الشيطان في أيَّ فتنة، ينسج الشيطان خيوطها لتخويفه، أو إعاقته عن عمل، بل هو بصير بالأمور، مدرك لعواقبها.لقد تتبَّعت تاريخيًا عددًا كبيرًا من الناجحين الدعاة والعلماء، ووجدت أن مسيرتهم لم تكن حافلة بالمتعة والمشي على الورد.بل وجدت الصعاب والمشاقَّ والآلام النفسية والجسدية غالبًا،لكن في مقابل ذلك لم يخسروا دنياهم، بل - والله- إن الدنيا أتت إليهم وهي راغمة، ولم يخسروا الناس، لأن الصدق تظهر دلائله، وإن حاول تشويهها المغرضون.ومع إيماني بهذا المعنى، ومعايشتي له، حدثني أحد شيوخي حديث القرآن عن الخوف، مما زاد يقيني، وأصَّل معناه عندي، حيث ذكر أربعة أنواع من الخوف، فزدتُ في توضيحها وبيانها. إن الخوف الذي يصيب الإنسان ويعيقه عن الدعوة أنواع فنَّدها القرآن الكريم، وهي: أولا: الخوف من أعداء الله، وما يمتلكونه من وسائل الإرعاب، وهذا الخوف ليس صحيحًا، بل هو مجرد وهم، كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: ١٧٥]، ومعنى يخوف أولياءه: يحاول أن يحيطهم بهالة من الخوف لعلهم يخافون، لكنَّ كيده ضعيف: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: ٧٦].إنها قاعدة القوة الإيمانية والقوة العتادية، وبعدها يأتي نصر الله الذي لا يُقهر.وكم رأينا في تاريخ اليوم من عبر، فها هي القوة العظمى - كما يسمونها - تُذل على أيدي أبطال الحجارة، الذين يواجهونهم من منطقة الصفر، ويصيدون ضباطهم كما يصيدون النعاج.ثم النوع الثاني من أنواع الخوف: الخوف على المصالح، فكثير من الناس قد أخذ موقعه في خريطة المجتمع، وله مكانة قد تبوَّأها، فلا يريد أن يفقد تلك المكانة، أو تلك الوظيفة، أو ذلك المال، أو ذلك المنصب، ومن هنا فهو خائف على ما أحرزه، لكن هذا الخوف - كذلك- ردَّه الله بقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: ٢٨]. والعَيلة الفقر.وكم رأينا اليوم من دعاة كبار ومصلحين عظام فَتحت لهم الدنيا أبوابها، وتسابق الناس لخدمتهم، وتقدموا في صفوف عدة في ساحة الحياة، وما ذلك إلا لأنه رِزق الله، الذي لا يستطيع أحد ردَّه.النوع الثالث من أنواع الخوف: الخوف من التشويه، فكثير من الناس لا يحاولون نصرة الدين، خوفًا من أن يكونوا عرضة لألسنة الناس، وأن تتكالب عليهم الألسنة، فيشوَّهوا بأنواع الألقاب المزرية، ويوصفوا بالنعوت المرعبة، لكن لا يتذكر هؤلاء أن الله (عز وجل)، المتصف بصفات الكمال، المنزه عن النقائص، زعم الناس له صاحبة وولدًا، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء) [المائدة: ٦٤]، (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالوا إن اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء) [آل عمران: ١٨١]، هل ضرَّ الله هذا التشويهُ شيئًا؟، ورسل الله الذين اصطفاهم الله من خلقه، وأكمل خلقهم وهو القادر على ذلك، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، مع ذلك ما منهم أحد إلا قيل فيه كذَّاب، مجنون، ساحر، كاهن، طالب سلطة، (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: 53]، فهل ضرَّ الرسل هذا التشويه شيئًا؟، ما ضرَّهم.وما نحن إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة، فيها نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن على آثارهم من المقتدين، فكل نكبة أصابت حلقة من تلك الحلقات لابد أن تصيب كل الحلقات، لكنها نكبات مباركة، فنكبة أصابت نوحًا أو أصابت إبراهيم، أو موسى، أو عيسى، أو محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مرحبًا بها وأهلاً، هذه النكبات التي تصيب الإنسان على طريق الحق نكبات مباركة، أصابت من هو خير منا، ولسنا أكرم على الله منهم، فلذلك إذا أصابنا شيء منها فهي نعمة اختارنا الله بها، فأكثر الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.والعاقبة للمتقين، والتشويه يعتمد على خيوط ضعيفة، وأعمال رخيصة، يبدِّد الله وهنها، ويمضي دعاة الحق في سبيلهم وصعودهم، لأن الباب الوحيد الذي لا يستطيع أعداء النجاح أن يوصدوه، هو: توفيق الله. وكذلك من أنواع الخوف وهو الرابع: الخوف من التكاليف، فكثير من الناس لا يمنعهم من نصرة دين الله إلا أنه يخشى أن يتكلَّف بتكاليف وأعباء، وأن يُجهِد نفسه بأعمال يظنُّ نفسه في غنى عنها، أو أنه بالإمكان ألا يكلِّف نفسه ذلك العناء، لكن الواقع أنه قد باع نفسه وماله لله، وأنه بذلك لن تزداد تكاليفه، فليس الإنسان يملك إلا نفسه وماله، وقد باع ذلك لله (عز وجل)، فكيف يخشى من زيادة التكاليف بعد ذلك، إن هذا من غرور الشيطان للإنسان، يظن أنه إن سعى لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه فإن التكاليف عليه ستزداد، والأعباء ستتضاعف، والواقع خلاف ذلك، فكلما ازداد الإنسان تضحية في سبيل الله سهل عليه البذل، وازداد نشاطًا وأُهبة لنصرة دين الله، وما عليكم إلا أن تجرِّبوا ذلك، فإن الذين سبقوكم كلما ازداد أحدهم في العمر ازداد في التضحية.هذا أبو طلحة الأنصاريّ (رضي الله عنه) وقد زكَّاه النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) تزكية كبيرة، فأخبر أنَّ صوته في الجيش خير من مئة أو من فئة، فعن أنس بن مالك، "أنَّ أبا طلحة، قرأ هذه الآية: (انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً) [التوبة: ٤١]، فقال: استنفرنا الله، وأمرنا الله، واستنفرنا شيوخًا وشبابًا. جهِّزوني، فقال بنوه: يرحمك الله، إنَّك قد غزوت على عهد النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك الآن، فغزا البحر، فمات، فطلبوا جزيرة يدفنونه فيها، فلم يقدروا عليه إلا بعد سبعة أيام، وما تغيّر". [رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وابن حبان].إذن الخوف السلبي هو المعيق عن العمل والتقدم، وهو الجُبْن بعينه، أما الخوف الذي يؤدي إلى الحذر المنطقي إنما هو خطوة إيجابية في طريق العمل.وسينقلب الخوف على أعداء الدين والحق والحرية والكرامة، وسترهبهم هبَّة سلمية، ويقلقهم شعار يعبرُ القارات، وستبتهج قلوب المؤمنين، ويزيدهم الله ثباتاً، وعلى طريقه فلاحاً.