16 سبتمبر 2025
تسجيلتنطلق رصاصة على الحدود بين دولتين، فيبدأ الناس في التفكير حول العالم: مع من نقف، ليبدأ كل فرد في تفصيل الصراع وفق معرفته بالأطراف، علاقته، أو فهمه له، ثم يبدأ بالتنظير في القضية والتدخل فيها حتى لا يكون بمعزل عن المشاركة بالرأي في كل موقف. لنأخذ الحرب الدائرة الآن بين أذربيجان وأرمينيا ونفصل الصراع، ولتتخيل نفسك مواطناً عربياً في دولة ما، ثم تجد هذه المعايير أمامك لتختار مع من تقف: # المنظور الديني: أذربيجان دولة مسلمة - أرمينيا دولة مسيحية. # المنظور الطائفي: أذربيجان ينتمي ٥٠٪ من أهلها للطائفة الشيعية – الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية هي الكنيسة الوطنية في البلاد. # المنظور الجيوسياسي: أذربيجان من الدول التركية – أرمينيا من دول الاتحاد السوفييتي. # المنظور الفكري: أذربيجان دولة أهلها محافظون دينياً – أرمينيا تفصل الدين (الكنيسة) عن الدولة. # منظور الدعم الخارجي: تحظى أذربيجان بدعم تركيا والكيان الصهيوني - تحظى أرمينيا بدعم إيران وروسيا. # المنظور الدبلوماسي: للبلدين علاقات مميزة بالدول العربية. وبعد كل ذلك، أي موقف ستأخذ، ومع أي طرف ستقف، هل ستقف مع ما تتبناه معتقداتك أو أفكارك، أم الموقف الرسمي لبلادك المبني على أشياء كثيرة ربما لا تعلم أنت أغلبها، أو على الأقل الخافي منها. السؤال الحقيقي هو: لما يجب أن تتخذ موقفاً مع طرف ضد الآخر وتناصب أحد الأطراف العداء من أجل موازين أنت لم تطلع عليها إلا قبل أيام؟. يقول المهاتما غاندي: "تطوقنا السياسة اليوم مثل لفة أفعى"، لهذا من المهم على الإعلاميين والباحثين والمنظرين وقادة الرأي العام أن يعلموا أن رأيهم الذي يصدرونه للجماهير يجب أن يكون مبنياً على معرفة، وعلى قيمة أخلاقية لا تؤجج المشاعر ولا تشكل تعصباً ولا تبني أوهاماً في عقول المتابع يتخذ بناء عليها مواقف مع طرف ضد آخر أو يشارك في صراع هو ليس طرفاً فيه ولا معنياً به ولا مستفيداً منه. لقد نجح غاندي بالسلمية وبمبدأ اللاعنف في بناء الهند، الدولة المتعددة الأعراق والمذاهب والأديان والطوائف واللغات والتوجهات. في المقابل سقطت كل الإمبراطوريات التي اتخذت العنف منهجاً أو القادة الذين كانوا صناع خوف وهادري دم، من الحجاج بن يوسف الثقفي إلى هولاكو المغولي وصولاً لهتلر النازي وموسوليني الشيوعي وغيرهم في هذا التاريخ الذي لا يرحم من لا يقرأه ولا يتعلم منه، لقد نجح هؤلاء في بناء دول وإمبراطوريات مزيفة قائمة على الخوف والدم، انهارت بعد رحيلهم. علينا جميعاً اليوم أن نكون دعاة سلام لا دعاة حرب، السلام على قدر الممكن، والحرب عند اللا ممكن، وعلينا جميعاً أن نطبق مبدأنا الإسلامي العظيم: ادفع بالتي هي أحسن. لعبت دولة قطر ولا تزال دوراً دولياً هاماً في أن تطفئ نيران الحرب، وأن تدفع الفرقاء إلى طاولة الحوار، وأن تدعم كل الجهود الدولية لتحقيق الأمن والاستقرار في كل نزاع حول العالم، ولقد كان ما قام به حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر في هذه الحرب النموذج المثالي الذي تسير عليه السياسة القطرية من خلال تواصله مع كل الأطراف، والأطراف الشريكة لتهدئة الأوضاع والمطالبة بضبط النفس. ليس مطلوباً من أحد معاداة أرمينيا ونصرة أذربيجان أو العكس، المطلوب أن ندفع المجتمع الدولي لمزيد من النظر إلى زوايا العمل المشترك، لتحقيق الأمن والاستقرار الدوليين. من أجمل ما قال ديفيز عن التعصب للفكر القومي: "ليست شيئاً، ولا حتى شيئاً مجرداً، بل سيرورة، وسيلة.. فالمرء لا يتخذ موقفاً مع مطرقة أو ضدها، أو فتاحة علب، أو أي وسيلة أخرى، فعندما تستعمل المطرقة للقتل، فهي بلا شك ستكون سلاحاً، وعندما تستعمل لبناء بيت، تكون أداة بناءة، فالقومية التي تعد تسويغاً لثقافة معينة تكون حيادية أخلاقياً، وعندما تعد حركة ضد الاضطهاد القومي يكون لها مضمون أخلاقي إيجابي، أما إذا عدت وسيلة للعدوان فهي غير قابلة للدفاع عنها أخلاقياً". إن اتخاذ المواقف يجب ألا يتم بناء على منظور ضيق، أو مفاجئ، أو وقتي، بل بناء على حقائق وأدلة ومعطيات وبراهين، ومع كل ذلك فإنك عندما تأخذ موقفاً فإن عليك أن تدافع عن تحقيقه دون عنف، ودون حرب، ودون دماء تذهب سدى. في مثل هذه الأزمات قد يكون الاصطفاف خطأ تاريخياً على المدى البعيد كما حدث في العديد من الأزمات السياسية التي مرت عبر التاريخ، وقد يكون الوسط هو الأفضل، وقد يكون الابتعاد والنأي عن النفس أفضل، وقد تكون المشاركة بالوساطة أفضل الأشياء. في كل الأحوال تبقى المواقف السياسية للدول رهينة للسياق السياسي والدبلوماسي ومعطيات المصالح الثنائية والمشتركة مع أطراف أخرى قد تكون خارج الصراع الظاهر. إن قيادة الرأي العام مسؤولية كبيرة يحملها الكُتّاب والمثقفون والباحثون، ونزعة الظهور والشهرة والمعرفة يجب ألا تتقدم على القيم الأخلاقية والأعراف المهنية، ومع تعدد الوسائل التي يمكن أن يصل فيها الناس لبعضهم اليوم تعددت قنوات إيصال الرسالة وتنوعت أشكالها وتكاثر مصدروها، وهو ما يجعل المتلقي تحت خطر القيادة المستمرة المتغيرة لوعيه وفق ما يشتهي المصدرون. [email protected]