19 سبتمبر 2025
تسجيلالأزمات تُخرج أسوأ ما في الدول، فكيف بأمّ الأزمات وأبيها وهي (الحرب)! كان مشهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في قمة شانغهاي الأخيرة التي عُقدت في الأستانة بقزاقستان، لافتاً للغاية، مشهد لغة الجسد، ومشهد لغة اللسان.. ففي المشهد الأول بدا الرئيس الروسي على غير عادته من الهيبة والقوة والسطوة والحضور، فظهر مكسوراً، مقارنة بظهوره في محافل سابقة، أما المشهد اللساني فقد عكسه الرئيس الصيني الذي يزور قزاقستان وهو الطامح لانتزاعها بشكل لطيف وناعم من مخالب الدب الروسي، حين عاتب نظيره الروسي على غزوه أوكرانيا، وأن لديه تساؤلاتٍ وانشغالاتٍ وقلقًا بشأن مسير الحرب، اللافت أن من نقل هذا كله هو الرئيس الروسي وليس الصيني، مما يعكس أن ما قيل وراء الستار أكثر مما نقل إلينا. الأمر الثاني جاء على لسان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وهو الذي يشكل مع الصين ثاني أضخم كتلتين سكانيتين في العالم، حيث قال له في المؤتمر الصحفي لقد قلت لك حتى بالهاتف: إن هذا الوقت ليس وقت الحروب، ولم يرد بوتين على كلا التعليقين، مكتفياً بقوله: "إن العمليات في أوكرانيا تسير كالمعتاد، ولن يتم التخلي عنها"، وهو الأمر الذي أثار مخاوف الغربيين وقلقهم، وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن من إمكانية لجوء بوتين إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، إما أسلحة كيميائية، أو نووية. وحذر بايدن من أن استخدام النووي سيغير وجه الحرب كلها، وسبق أن هدد بالنووي الرئيسُ الروسي السابق ميدفيدف، وألمحت إليه قيادات روسية حالية. الواضح أن روسيا لا تزال مصرّة على المضي قدماً في الحرب بأوكرانيا، ظهر ذلك في مقطع فيديو تم تسريبه لـ (يفجيني بريغورزين) صاحب شركة فاغنر لمرتزقة الحرب، ويوصف بطباخ بوتين، وهو يعرض على السجناء الحرية مقابل القتال لستة أشهر في أوكرانيا، بالإضافة إلى مقاطع فيديو أخرى، إذ يقوم سماسرة في ساحات موسكو بعرض 3 آلاف دولار مقابل ترشيح الشخص المناسب للحرب، ومع هذا كله لم يعلن بوتين التعبئة الشاملة، ربما لقناعته أن الرأي العام ليس مهيئاً له، يحدث هذا كله على الرغم من خسارة جيشه بحسب المصادر الأوكرانية لأكثر من 50 ألف قتيل، وهو ما سينعكس بشكل خطير مستقبلاً على الجيش تنظيماً وتدريباً وتسليحاً، بل يذهب البعض إلى أن روسيا ما بعد بوتين قد تكون ملزمة بتقليص جيشها، لتثبت للآخرين عدم وجود نوايا عدوانية في المستقبل، وقد تفتح عليها الهزيمة جبهات جديدة في جورجيا ووسط آسيا والقوقاز، وهو ما قد يهددها بإعادة سيناريو ما بعد الحرب الأفغانية، حين تفكك الاتحاد السوفياتي. وسائل الإعلام الغربية بدأت تقرع طبول الخوف والقلق، وأن ما تواجهه من بوتين الجريح خطيرٌ عليها، ولذا على الجميع التعامل معه على أساس أنه قد يلجأ نتيجة يأسه لخيار شمشوني (عليّ وعلى أعدائي)، خصوصاً وقد لجأ في الأشهر الأولى للحرب إلى شراء مدفعية من أوكرانيا الشمالية، وطائرات بلا طيار من إيران، وقطع غيار من الصين، مما عكس ضعف الحالة التسليحية لجيشه، الذي بدا منهكاً وهو ينسحب انسحاباً فوضوياً من أوكرانيا، مخلفاً وراءه أسلحته ومعداته، بل وتجرأ الأوكرانيون الآن على قصفه وهو في داخل الأراضي الروسية! بلا شك فإن الولايات المتحدة حققت انتصارات استراتيجية على روسيا، وأولها انتصار السلاح الغربي والأمريكي على الروسي، ففضحت بذلك هيبة روسيا المتعالية خلال العقدين الماضيين على المسرح العالمي، لكنها بالمقابل ليست معنية بإضعافها إلى درجة التفتت والتمزق، كما حصل في تمزيق الاتحاد السوفياتي عام 1990، فالتمزق هذه المرة يعني فتح حدود طويلة جداً من الفوضى الجهنمية لدول يقبع فيها المارد الإسلامي، وتحاذي الحدود الأفغانية المتماهية معهم دينياً وعرقياً، مما يجعل مسألة السيطرة عليها خطيرة، ونظراً لتأثير روسيا ونفوذها على مساحات واسعة من أراضيها والعالم، فإن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على ضبط تلك المساحات بمفردها أشبه بالمستحيلة، ويضاف إليه أن روسيا الضعيفة المفككة ستكون تابعة للصين، وليس شريكاً لها، مما يعزز في هذه الحالة الخطر الصيني الذي تراه واشنطن خطراً استراتيجياً أشد من الخطر الروسي.