13 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ انطلاق ثورات الربيع العربي، والتي بدأت رحلتها الثائرة من تونس مرورا بمصر وليبيا واليمن وسوريا، وتدخل الآن الربع الأخير من عامها الثاني، ورغم أن كلاً من تونس ومصر وليبيا قد نجحت في تكوين حكوماتها الجديدة المنتخبة، واليمن التي لا تزال في طور حكومتها الانتقالية، فإن موجات التظاهرات والاحتجاجات مستمرة، ولا يزال الشعب السوري يناضل من أجل الحرية.لقد نجحت غالبية دول الربيع العربي في إسقاط أنظمتها الاستبدادية الحاكمة واستئصال قياداتها الخبيثة من أجساد أوطانها التي بدأت يدب في أوصالها رويدا رويدا شيء من العافية، ولكن بدلا من أمطار السلام والاستقرار اللذين كانا من المفترض أن يسودا الأجواء الاجتماعية لتلك الدول، ظهر تزايد الحسد والحقد والكراهية والسب والشتم وعدم التقدير والاحترام بين أفراد المجتمع، لمجرد اختلافات طبيعية في وجهات النظر السياسية أو الاجتماعية، أو حتى لتباينات في الآراء الفكرية أو الدينية. وقد يعود أحد أسباب هذه التجاوزات السلوكية إلى حقيقة أن ثورات الربيع العربي قد كسرت حاجز الخوف القديم البالي، والذي ولى إلى غير رجعة بذهاب سلطة الحاكم المستبد التي كانت ترهب الشعب وتتفنن في ترهيبه من خلال أجهزتها الأمنية القمعية، وقد استغرقت تلك الشعوب في نومها المتوجس وحينما استفاقت مع فجر الثورات لم تجد سلطة بديلة، حيث إن ثورات الربيع العربي لم تعرف قائدا فردا أو قيادة جماعية، فلقد كان الشعب هو القائد الأوحد، فجأة، أتيح لتلك الشعوب العربية هامشا كبيرا من الحرية للتعبير عن غضبهم وسخطهم، تستطيع أن تقول فيه ما تشاء وتفعل ما تشاء وتعبر فيه عما تشاء من آراء، دون خوف أو وجل من سجن أو تشريد أو ربما حتى اغتيالات من قبل قوات أمن الأنظمة الحاكمة.وبذهاب تلك الأنظمة السابقة إلى مزبلة التاريخ، حدث فراغ في المجتمع بسبب عدم صياغة دستور جديد يواكب منحى الحياة السياسية الجديدة التي بناها الشعب على آمال الحرية والتطلع نحو الديمقراطية، وبما أن عملية بلورة دستور جديد ستأخذ وقتاً حتى يتم تعزيز فرض سيادة وحكم القانون، فإنه سيكون من الصعوبة إخضاع شعوب تلك الدول إلى القوانين القديمة، باعتبار أنهم يرون أن مجرد خضوعهم لها يعتبر عودة عن الديمقراطية إلى عهود الأنظمة الاستبدادية. ومع ذلك، فإن هذه الحرية الجديدة التي حصلت عليها تلك الشعوب مقابل تضحيات جسام وثمن غالٍ، قد أتاحت الفرصة لبعض الجماعات التي لديها أجندات خاصة بها للاستفادة من أجواء فوضى ما بعد الثورات، وتجيير هذا الوضع الاستثنائي الممنهج لمصلحتهم الخاصة، ولهذا السبب فإننا وللأسف الشديد ما زلنا نشهد التناحر الطائفي أو الفئوي الذي لن يؤدي سوى لخلق المزيد من الفوضى التي حتما ستهدد استقرار دول الربيع العربي، ولا ننسى الأدوار التي لعبها عدد من وسائل الإعلام في تعميق حدة الشقاق في المجتمع.كما أن هناك سببا آخر للفوضى الخلاقة التي حدثت في أعقاب الربيع العربي، وهو أن كل فئة من الناس لديها تصور مختلف لمعنى الحرية، ظن الكثيرون أن هذه الحرية إنما هي أحد صكوك الغفران التي تسمح لهم بأن يفعلوا ما يشاءون دون التفكير في العواقب، ناسين أو متناسين أن الحرية الكبرى لا تأتي إلا مترافقة مع مسؤولية أكبر، كما أن المسؤولية مبدأ وشرط للحرية.كذلك فإننا نجد أن غالبية قيادات ثورات الربيع العربي هم من شريحة الشباب الذين تشبعوا بمبادئ وأفكار حديثة وضعتهم في موقف تحد واضح لكل ما هو قديم، وتمردوا على كل ما يمكن أن يندرج في سياق الإطار التقليدي القديم، فالمثل والقيم الأخلاقية العربية والإسلامية التي كانت تستحوذ في السابق على كامل التقدير والاحترام، أصبحت مفقودة الآن وضاعت في خضم تناقضات ثورات الربيع العربي. ولكن يجب أن يعي الجميع حقيقة أن القيام بثورات تستهدف الإطاحة بالنظم السياسية القديمة، لا يعني إطلاقا أن نلقي جانبا بقيمنا الأخلاقية التي نشأنا عليها ونشأ عليها آباؤنا وأجدادنا، فلربما ينسى الناس حقيقة أنه من دون هذه القيم العربية والإسلامية، تنهار الأسس والدعائم القوية لأي دولة، لأن هذه القيم الفاضلة هي التي تجعل خيوط النسيج الاجتماعي أكثر تماسكا، وتقوم بشحذ همم الشعوب وتوجيهها معنويا نحو آفاق المستقبل تحقيقا لغاياته وأهدافه العليا.فخلال حقبة الثورة الفرنسية، كانت قيم الحرية والمساواة والإخاء، هي الأسس القوية التي بني عليها الدستور الفرنسي الثوري، وقد قامت الثورة الفرنسية بتحرير الشعب من شباك النمط القديم الذي كان يقيدهم، وأصبحت هذه القيم هي النمط الجديد الذي ظل ينتهجه المجتمع الثوري الفرنسي ويسير بموجبه، وهي الضمانات الحقيقية لحرية المواطنين في فرنسا ومن انتهج نهجها، ويذكر الفيلسوف جان جاك روسو في كتابه الشهير (العقد الاجتماعي): "يولد الإنسان حرا ولكننا نجده مكبلا بالأغلال أينما كان"، مما يشير إلى أن دستور الدولة هو خير مثال على العقد الذي يلزم كافة أفراد المجتمع على العمل به.كذلك يتضمن إعلان الاستقلال الأمريكي واحدة من أكثر الجمل تأثيرا في ثقافة العالم وحقوق الإنسان، وهي أنه "لا يجوز لأي شخص أن يؤذي شخصا آخر في حياته أو صحته أو حريته أو حقه في التملك"، وأن "كل البشر سواء في الحرية والاستقلال، ولهم حقوق فطرية لا يمكن لأحد أن يحرم الأجيال القادمة، أو يجردهم منها لحظة دخولهم إلى المجتمع"، وأن "كل البشر خلقوا متساوين، وأن خالقهم وهبهم حقوقا معينة، غير قابلة للانتزاع، منها الحرية والحياة والحق في السعي لتحقيق السعادة"، لتصبح هذه العبارة الأخيرة إحدى أكثر العبارات التي اعتمد عليها، ليس فقط الدستور الأمريكي فيما بعد، ولكن مواثيق حقوق الإنسان في العالم، وبالإضافة إلى ذلك، فإن إحدى أهم القيم الأساسية في الدستور الأمريكي، بجانب القيم الأخرى السابق ذكرها، كالحق في الحرية والحياة والحق في السعي لتحقيق السعادة، هي قيمة "الصالح العام"، الأمر الذي يتطلب من كافة أفراد المجتمع الالتزام التام بمراعاة مصلحة المجتمع قبل المصلحة الذاتية للفرد. وبالتالي يجب أن يمثل دستور أي دولة القيم التي تعتز وتفخر بها، فالفوضى التي جاءت مع الربيع العربي مثلت خرقا بينا لقيم معترف بها من قبل كافة الشعوب العربية، مثل احترام الآداب العامة، وتمكن رؤية مثال واضح لمدى انهيار قيم المجتمع العربي من خلال الإعلام في بعض دول الربيع العربي.نحن بحاجة للحفاظ على القيم الأخلاقية العربية والإسلامية، وهذا هو ما ينبغي التأكيد والتركيز عليه في الدساتير الجديدة التي تتم صياغتها حاليا لدول الربيع العربي، ويجب ألا تقتصر صياغة هذه الدساتير الجديدة فقط على تضمين قيم الحرية والعدالة والكرامة التي جاءت بها ثورات الربيع العربي، بل ينبغي لها أن تشمل أيضا قيما أخلاقية عربية، يمكن أن تواجه بها هذه الدول التحديات الجديدة والأخطار المحدقة بمستقبل العالم العربي.