18 سبتمبر 2025
تسجيلربما تخضع قيمة الإنسان في الوقت المعاصر وبكل أسف لمعايير العرض والطلب بمعنى أن من ورائه مصلحة فإن قيمته سترتفع ومن فقدها فإنه سيلج في خضم المقاييس الجائرة وعلى ما يبدو أن للجغرافيا دوراً في هذا الشأن. أي أن القيمة تختلف باختلاف الاتجاه، فإذا نحيت الروابط الإنسانية جانباً وهمش دورها وتضاءلت قيمتها في خضم هذا الزخم الحضاري وتوارى صوت الحكمة والتي لا يتعدى دورها تسجيل الحضور فقط وعلى الورق بمعزل عن التأثير فيما يسهم هذا الغياب في تبني القرارات المشحونة بتغليب الذات لتصاغ في قالب لا يأخذ من المنطق إلا شكله والتأثير بالتالي على مستوى الأخلاق ولا يقف عدم الالتزام الأخلاقي تأثيره على الأفراد فحسب بل ينسحب كذلك على الأمم، لتكون بذلك مؤشراً على رقي الأمم وتقدمها أو العكس، فمهما بلغت أمة من القوة ما يشبع الغريزة في التفوق في جانب معين بمعزل عن الأخلاق فإنها ضعيفة لأن غياب الأخلاق سيؤدي بها لا محالة إلى انتفاء الأطر المؤسسة للاستمرار لتزول وتذهب، فكم من أمم هلكت لا لضعف في قدرتها ومقدراتها بقدر ما فقدت حنكتها وحكمتها في المحافظة على أسس البقاء! وبالتالي زوالها من أرض الواقع وبقاؤها في التاريخ نقطة سوداء وعبرة لمن يغره الورم والانتفاخ بينما هو في واقع الأمر استدراج للسقوط، وتتبلور أخلاق الأمم وتتشكل بسلوك أفرادها، حينها يتم القياس بالأغلبية لأن الأقلية تندرج في نطاق الشاذ والشاذ لا حكم له، من هنا تحرص الأمم أشد الحرص على بناء الأخلاق، معتبرة من تجارب الأمم السابقة، ووفقاً لمعطيات تتسق مع قيمها ومبادئها، وبذلك تحتضن وتحتوي أفرادها بترسيخ هذه الأسس وتشكل لهذا الأمر ميزانيات تختص بالتربية ما يفوق التسليح بهذا المضمار مدركة مغبة التساهل أو التفريط في هذا الجانب، والأديان السماوية تحث على السلوك النبيل واحترام الذات البشرية التي خلقها المولى سبحانه في أحسن تقويم، وإن يكن من أمر فإن المسؤولية في هذه الخروقات يحمل جزءاً كبيراً منها الأسرة والمدرسة بل المجتمع بشكل عام فالنزعة العدائية لا تولد مع الإنسان بقدر ما تنمو عطفاً على إرهاصات الواقع والتفاعل مع ما يختزنه العقل الباطن وتخضع لاعتبارات من ضمنها التأثر والإقناع والاقتناع، فالأبيض لا يمكن أن تراه رمادياً، أو توحي بأنه كذلك لمن يسمعك إن رغبت في ذلك، فإذا كانت الألوان واضحة فإن القيم كذلك فمن لا يرغب بالطمأنينة مكابر، ومن لا يرغب بالسكينة مغامر في سباق خاسر في حين أن المثالية معين الأخلاق الذي لا ينضب، ومن غير اليسير بل من الصعوبة بمكان أن تجد مجتمعاً مثالياً مائة بالمائة بيد أن حتمية تطبيق الحد الأدنى تفرضه بطبيعة الحال معطيات الحياة ومتطلباتها وصولاً إلى بلوغ الحد الأعلى، وهكذا يتحقق رقي الأمم بمعزل عن التساهل أو التفريط في هذه الأسس، وإن كان السعي نحو بلوغ هذا الهدف بحد ذاته يعتبر مؤشراً إيجابياً للسير في الطريق الصحيح واحتواء السلوك وما يفرزه من أخطاء عبر التوضيح والتصحيح بالكلمة الطيبة ومن خلال الإقناع المؤثر بعيداً عن التجريح الذي لن يورث إلا التجريح المضاد، وكذلك مصادرة الاحتقار والازدراء لتسمو الروح بشموخ العزة والإباء عبر الألفة التي توجب المحبة، وبالتالي إنشاء صيغة ملائمة تتيح للجميع الانصهار في وحدة متكاملة. وفي سياق الأدب يحكى أن أعرابياً عثر على ذئب رضيع في البادية، فاحتضنه إلى خيمته رحمة به وعطفا عليه، وأعاشه بين غنمه، ووثق صلته بشاة حلوب، فباتت ترضعه وترعاه رعاية الأم لوليدها فلما اشتد عوده فتك بها فأنشد قائلاً أكلت شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيب غذيت بدرها وربيت فينا فمن أنباك أن أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء فلا أدب يفيد ولا أديب