12 سبتمبر 2025

تسجيل

الأوصياء على الفكر

20 أغسطس 2015

تطالعنا الصحف ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة ببعض الأشخاص الذين ظهروا مؤخرا على الساحة بإعتبارهم على إلمام كامل بشتى مناحى المعرفة .. فهذا خبير إستراتيجى .. وذاك محلل سياسى أو إقتصادى .. وذلك متخصص فى السياحة أو التعليم أو أى فرع من فروع المعرفة .. ولكن معظمهم – وحتى نكون منصفين لا نقول جميعهم – يشتركون فى أنهم يتحركون عكس الإتجاه طلبا للتفرد الخادع والتميز الزائف بالقدر الذى يسمح لهم بالبقاء فى الصورة حيث أنهم لا يملكون أى شئ من مكونات هذه الوصاية . ولكن ما هو الفكر وما هى أدواته ؟ ببساطة شديدة الفكر هو " إعمال العقل " .. إعمال العقل من خلال التأمل والتصور والتدبر فى المعلوم للوصول إلى المجهول . ومن البديهى فى هذا الصدد أن نشير – كما يقول الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب فى مقاله الرائع " الفكر المعاصر " بجريدة الأهرام – إلى أن أدوات العقل فى هذا المنحى للوصول إلى المجهول ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية هى التحليل والتركيب والتنظيم .. وبدون ذلك يكون ما يطلقون عليه فكرا ما هو إلا إندفاعا عشوائيا تغلب عليه السذاجة والسطحية ويغلفه التجمد . والفكر أو العلم لا يمكن أن نعتبره كذلك على أى مستوى من المستويات أو فى أى موضوع من الموضوعات دون أن يتأسس على " نظرية " .. بمعنى أن يكون مخططا له .. كما أن أى تخطيط سياسى أو إقتصادى أو إستراتيجى لابد بالضرورة أن ينطلق من " نظرية " .. وإلا كان عملا عشوائيا غير منظم ويقوم على الفعل ورد الفعل .. وهو أسوأ ما تُبتَلى به الأمم . والفكر لا يكون نافعا .. أو بالأحرى مجديا ومؤثرا ما لم يكن ملتحما بالواقع .. بمعنى أن المفكر الحقيقى هو الذى يتوقف عند الظواهر المادية ويتساءل عن ماهيتها وكيفية الإستفادة منها بتطويرها أو الحفاظ عليها وذلك على عكس من لا يلتفت إلى الظواهر المادية والذى يمكننا تصنيفه باطمئنان كامل بأنه غير مفكر لأن هذا الإنفصال الفكرى عن الواقع ما هو إلا مجرد قدرة كلامية مفرغة من المعانى .. ولعل هذا حال من يدعون أنهم من الخبراء والمحللين والمتخصصين والذين أشرنا إليهم فى بداية مقالنا هذا .. وهم بالمناسبة من لا يبحثون عن صدق ما يسوقونه من معلومات ولا يتحرون دقة الأخبار التى تتضمنها أحاديثهم . وعود على بدء نقول أن الفكر القائم على نظريات هو أفضل الوسائل لتنظيم التفكير وإعمال العقل للوصول إلى خلاصات قابلة للتعميم .. وهى فى نفس الوقت تساعدنا على التنبؤ بمستقبل الظواهر المختلفة . والنظرية theory باللغة الإنجليزية جاءت من الجذر اليونانى theoros .. وهو ما اعتدنا أن نطلق عليه ثيوروس .. وهذا بدوره له قصة طريفة جاءت من الأسطورة اليونانية التى تقول أن الحياة عبارة عن مهرجان كبير جدا يأتى إليه الناس للبيع والشراء واللعب والتسابق والمبارزة .. ما عدا صاحبنا ثيوروس هذا الذى كان يأتى ويجلس وحيدا منزويا فوق شجرة عالية ليلاحظ كل ما يحدث فى هذا المهرجان الكبير والذى هو نموذج مصغر للحياة .. ونحن على ثقة بأن ثيوروس هذا لو جاء فى أيامنا هذه وجلس ليشاهد التلفاز من فوق شجرته العالية تلك .. ولو أنه شاهد وإستمع إلى هؤلاء المحللين والخبراء والمختصين .. لو أنه فعل ذلك لألقى بنفسه من فوق الشجرة لتدق عنقه ويقضى حتفه .. مفضلا الإنتحار على ما يجرى أمامه من سخافات . ونخلص مما سبق إلى أنه يتحتم علينا أن نعى مفهوم الفكر الصحيح حتى نعيد الفكر إلى مساره الصحيح بعد أن نخلصه من الشوائب التى لحقت به . وفى ذات الوقت لابد أن نحترم ماضينا وتاريخنا ونستفيد بما فيه من إيجابيات بنفس القدر الذى يجب علينا فيه الإنفتاح على العالم من حولنا وثقافاته المختلفة وأن ننهل منه ما يتوافق مع قيمنا وتراثنا وأخلاقنا العربية . وإلى موضوع جديد ومقال قادم بحول الله . بقلم : د . مصطفى عابدين شمس الدين [email protected]