10 سبتمبر 2025
تسجيلعلى الرغم من أن الانتهاكات التي يتعرض لها الفرد في محيط عمله تُعد أحد السلوكيات التي لازمته منذ القدم، إلا أن إحصائيات الأبحاث الأكاديمية الحديثة تشير إلى اضطراد تلك الانتهاكات حول العالم، وهي التي تظهر أساساً في سوء استخدام رب العمل للسلطة الممنوحة له، بغية فرض سيطرته على أعضاء فريق العمل وإلزامهم قسراً بالانصياع إليه، مستخدماً كافة أشكال الضغوط المتاحة، كالتهديد المباشر واستمرارية التوبيخ وتعمد الإهانة، والتي قد يصل بعضها إلى حد العنف الجسدي! لذا، فقد استدعى الأمر سنّ القوانين المرعية للحد دون تلك الانتهاكات في حق العامل، وصون كرامته في بيئة العمل، وللحيلولة دون آثارها التي لا بد وأن تمسّ سلامته النفسية في المقام الأول، كإصابته بالأمراض السيكوسوماتية (النفسجسمية) وما قد يلحق بها من تبعات لا يُحمد عواقبها، تظهر في تعرّضه لاضطرابات عقلية ولأفكار تشاؤمية قد تدفع به إلى الانتحار في أسوأ الظروف، إضافة إلى التبعات الاجتماعية والاقتصادية التي قد تظهر في شكل اضطراب علاقات العمال، ونقص المرونة في سير العمل، وزيادة عدد الإجازات المرضية، وانخفاض معدل الإنتاجية ككل. ومع عالمية هذه الظاهرة التي أخذت هيئة «الوباء الاجتماعي» حسب تعبير المؤلف، فإنه من اللافت للنظر افتقار الأنظمة العربية للتوعية اللازمة بها، سواء من ناحية التنظير الأكاديمي أو التشريع القانوني، إذ لا يعدو «التعذيب المعنوي» في أجهزتها عن كونه تنظيما إداريا معمولا به في المؤسسات، أو عُرفا تم قبوله بمرور الوقت في مناخ العمل كمتطلب، أو كمظهر من مظاهر السلطة اللازمة لرب العمل. لذا، يتصدى المؤلف إلى هذه الظاهرة في كتابه (التحرش النفسي في الوسط المهني) الصادر عن (دار كفاءة المعرفة للنشر والتوزيع)، حيث يتناولها بالتعريف النظري ابتداءً، ثم يتطرق إلى نمطي شخصية المعتدي (المتحرِش) وشخصية الضحية (المتحرَش به)، ويوضح آليات حدوث هذه الظاهرة، وسلوكياتها، واستراتيجياتها التي يتبعها المتحرش لتحقيق أهدافه ضد المتحرش به، وما يترتب عليها من آثار سلبية تصيب العامل والمؤسسة والمجتمع معاً. ثم ينتهي باقتراح منهج وقائي لصد هذه الظاهرة على كافة المستويات، مع تعزيز الجانبين الديني والأخلاقي فيها.. وقد استعان بعدد من المراجع العربية والأجنبية إضافة إلى شهادات بعض الضحايا كأمثلة واقعية. وعن المؤلف، فهو (د. حميد حشلافي). طبيب وباحث استشفائي في كلية الطب بجامعة وهران الجزائرية، وأستاذ جامعي مشارك بقسم علم النفس في كلية العلوم الاجتماعية بها. وهو كذلك كاتب وروائي، أصدر أكثر من عشرين مؤلفاً علمياً وأدبياً، ومشارك فعّال في البرامج التوعوية لا سيما ما يتناول منها الصحة النفسية. تتقاسم الظاهرة تعريفات طبية ونفسية وقانونية، فهي من وجهة أخصائي في الأمراض العقلية «محاولات متكررة ومتواصلة يقوم بها شخص معين بهدف الضغط، وتهشيم المعنويات، والاستفزاز، للحصول على رد فعل من شخص آخر. هذه الطريقة تسبب في الضغط، تفزع، تقهر، تهدد الضحية التي تشعر بأنها لا تملك أي وسيلة لتدافع بها عن نفسها». غير أن التشخيص النفسي يستلزم توفّر ثلاثة مظاهر أساسية، هي: ديمومة المضايقات السلوكية ضد الضحية بهدف إلحاق الأذى به، التأثير السلبي على المستوى المهني للضحية، التأثير السلبي على صحة الضحية الجسدية والنفسية. أما عن طبيعة المضايقات السلوكية، فقد تم تصنيفها -حسب هدف المعتدي من تحرّشه بالضحية- إلى خمس مجموعات، هي: «منع الضحية من كل وسيلة للتعبير» ومن أشكالها عدم السماح للضحية بالتعبير عن طبيعة عملها ومنصبها ورأيها المهني، وإن حدث فمصيره التجاهل أو الاعتراض. «عزل الضحية عن باقي زملاء العمل» ومن أشكالها توجيه أعضاء فريق العمل نحو عدم التواصل مع الضحية، أو بنقل مكتبها بعيداً، أو منعها من استخدام بعض الوسائل المكتبية، أو عدم تحديد مهام عمل واضحة لها. «تشويه سمعة وضرب مصداقية الضحية» ومن أشكالها: توجيه الإهانة، الاستهزاء، إطلاق الإشاعات، تلفيق الأكاذيب، وتكليفها بمهام أدنى من مؤهلاتها العلمية. «إلحاق الضرر بالمسار المهني للضحية» ومن أشكالها التقييم المهني المجحف بحق الضحية، إنكار دورها ضمن فريق العمل، واستمرار الانتقاد والتوبيخ. «إلحاق الضرر بصحة الضحية» ومن أشكالها توجيه عبارات التهديد المتوعدة بالاعتداء اللفظي أو الجسدي، أو تنفيذهما فعلياً. أما عن الاتجاهات التي يتشكّل من خلالها التحرش النفسي، فأربعة: (أفقي) وهو على مستوى الأعضاء أنفسهم في فريق العمل. (عمودي تنازلي) وهو على مستوى رئيس فريق العمل نحو مرؤوسيه. (عمودي تصاعدي) وهو على مستوى أعضاء فريق العمل نحو رئيسهم. (كلي) وفي هذا المستوى، يتضامن الرئيس والمرؤوسون في التحرش النفسي ضد الضحية. يوجه هذا النوع الشامل من التحرش عادة نحو العضو الذي يشكل «مصدر قلق وتهديدا حقيقيا للمسؤول ومعاونيه من زملاء العمل والمتورطين في مخالفات إدارية أو خرق غير قانوني، مقابل إصرار ورفض الضحية المتحرش بها انتهاج نفس سلوكياتهم». فمع السمو الأخلاقي للضحية، تتكالب زمرة الفساد الإداري عليها لأجل ممارسة أقصى ما أمكن من عنف نفسي أو جسدي تصل إلى حد تصفيتها جسدياً، مع استنفاد كافة الحيل لاستمالتها لصالح الزمرة.