16 أكتوبر 2025
تسجيلجلست على ذلك الكرسي المصنوع من الخشب المحروق المقاوم للاندثار رغم قدمه، لا تسمع سوى أصوات خطوات المارة وهي تقارع أرضية المجمع الرخامية، أسكون يُباغتها فجأةً؟ أم أن القدر أغدق عليها بالصمت الأبدي؟تشعر بحُبور من حولها، وفي داخلها تعاني من الكمد! موسيقى عابرة تقتحم المكان لوهلة، أحدهم تخطفه قدماه سريعاً قاصداً الانقباض على مأربة ملقاة على رفوف إحدى المحلات، أقدام شتى تسير على مهل... وجوه ارتسمت عليها ملامح الدهشة دون سبب.... أذهان شاردة وقعت أسيرة للسرحان... مرتادو المقاهي يتسارعون وبين أيديهم جرائدهم يبحثون عن طاولات لكي يلقون عليها أفئدتهم وعقولهم عند احتساء القهوة...تتراود ذلك المكان نظرات تلك المرأة التي تجلس على كرسي مسكون بالوحدة، خطوط مُتجعدة ومُرتسمة تحت عينيها... لقد أضناها الوصب! ترتدي ملابس مهلهلة، علامات وجهها تدل على اجتياح الفقر لأواصر حياتها، أخرجت صورة رميمة الأطراف من جيبها الصغير الذي بالكاد يكفي لبضعة نقود تتأمل حبيس تلك الصورة...ملامح ثابتة... عيون موجهة للأمام... ألوان باهتة... دمعة ذُرفت من عينيها برقة متناهية فانتثرت على وجه ابنها الصغير، حشدت تلك الدمعة ما بها من جيوش الحزن... فأغاروا على قلبها الكسير...اللهيف... الكامد...الوحدة تجلس بجوارها... تتعايش معها... تتقاسم معها كسرة الخبز... يتأملن معاً وجوه روّاد المجمع... أطفال بصحبة ذويهم.... أصواتاً متداخلة... همسات مُستفاضة مندمجةً بحكايات تعبر أرجاء المكان... لا تملك الحق في أن تروي همها لأحد المارة... فكلٌ مُحمّل بخلجات مختلفة تُراود النفس بين الفينة والفينة... لن يُصغ لها بإمعان سواها... فهي غريبة... تائهة... وحيدة... ابنها الوحيد ينتظرها في مُستقرٍ ما...تأملت وجه أحد مرتادي المُجمّع يجلس في سكون على طاولة متوسطة الحجم وأبخرة القهوة تتصاعد بإشفاق... رأسه مُسدل على هاتفه المحمول متنقلاً مابين رسالة وأخرى... تغريدة تُسابق التغريدة التي تليها... موزعاً ابتساماته الخاطفة عندما يرفع رأسه بغتةً... ويلتفت يمنة ويُسراً محاولاً اصطياد من تقع عيناه عليه.... ثم يُكمل تجميع بعثرته في ذلك الجهاز الصغير...ضحكات تتصاعد من أُناس شُكلَّت على ملامحهم معاني عدم الاكتراث بأي شيء سوى قطع مسافات طويلة من المشي في المجمع بلا هدف... وريقات صغيرة... محارم مُتَقَبِّضٌه ملقيّه على الأرض، كل ما على تلك المرأة القيام بمسح وتنظيف ما يقترفه البشر من رمي لتلك النفايات وهي صامتةً بوجوم، وعند الانتهاء تعود إلى ذلك الكرسي، لتُكمل الحديث مع وحدتها البارَّة، فتتسامران طويلاً لتصبحا أكثر ألفه من ذي قبل، دون أن يُعكر صفوهما أحد عند التفكير بإبن تلك المرأة التي تعيش بعيداً عنه... منتظراً منها بضعة نقود ليتصدَّى بها خناجر الفقر.... لقمة عيش تتقاسمها مع ابنها الوحيد... مُجبرةً على الغربة... والتنحي جانباً والاستماع بإفاضة إلى أصوات خطوات الأرجل السريعة... والتأمل بإطناب في الوجوه الغريبة...تركت آلامها جانباً لوهلة... فقررت الانهماك بالاستغفار... فأخرجت مسبحتها لتراود حبيباتها الصغيرة عن يديها، ولفظت مراراً مستغفرةً... استغفر الله... استغفر الله... استغفر الله....وباحت ما يختلجها من ابتئاس وشجون... فأُمطر فؤادها بالسكينة بعد أن كان فارغاً... لم تعد تسمع خطوات الأرجل وهمهمات البشر... لم تعد تسمع سوى صوتاً ايمانياً يُخالط أنفاسها مُشعلاً نوراً يُضيء طريقها الحالِك... ابتسامة رُسمت على شفاهها انعكست على وحدتها التي قررت هجرها لتحل محلها منتصرةً قوة القرب من الله، ومؤمنةً بأن الخيرة فيما اختارها الله عز وجل، فالبشر ليس في يديهم رزقها ولا رزق أحد... فالرزاق هو الله وحده ولا غيره أحد...ثُم تلت: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)) صدق الله العظيم.