13 سبتمبر 2025

تسجيل

ميراثك.. فى الارض المقاومة !

20 مارس 2015

كان اللقاء الأول على غير موعد ولا ترتيب وبدون سابق معرفة مباشرة ،وكان التصرف فيه إنسانيا محضا مع أننا لم نلتق إلا على وحدة الموقف .فما إن لمحت ظهوره حتى تحركت بعفوية شديدة نحو مصدر قدومه ،وفى لمح البصر تحرك الرجل تجاهى بحفاوة وبشر روحه قبل ملامحه ،حتى تحرك الهواء ليملأ تلك العباءة التي لم تفارق ظهوره العربي المهيب.لاحظ حركتى المباشرة لتقبيل رأسه باسم أمة الصفاء والخير والصمود والمقاومة،فقال جملا وكلمات عفوية .وكان العناق حارا وكأننا نعرف بعضنا منذ سنوات طوال ،عشنا فيها وافترقنا وحان اللقاء على غير موعد .تبادلنا الكلمات ،فقلت أنت عنوان لأمة تجدد عطاءها فى أنقى صورة وفى مواجهة أخطر حالة احتلال وقتل وإجرام شهدتها البشرية ،وقال ما قال .لحظتها جرت حركة لافتة من قبل المحيطين ومن لفت نظرهم هذا اللقاء وتحرك كثيرون لملاقاة الرجل .وقد سألنى أحد من كانوا يجلسون إلى جوارى في تلك القاعه المهيبة التي شهدت المؤتمر القومي الإسلامي بالدوحة:منذ متى لم تلتق الدكتور؟ وحين أجبته إنها المرة الأولى التي نلتقي فيها ،نظر إليَّ مذهولا.وهكذا ومنذ ذاك اللقاء ،صار نجله أخي وصار هو الوالد والراية ودام التواصل بيننا ،دون أن تتاح لي فرصة اللقاء المباشر به إلا مرة واحدة من بعد.لحظتها أدركت كيف أصبح التواصل عبر الفضائيات عنوانا للقاء إنساني شديد العمق وإن لم يجر لقاء مباشر،وأدركت كيف لوحدة الموقف أن تصنع نمطا إنسانيا راقيا من علاقات البشر.فإذا كان الرجل قد تابع مواقفي المساندة والداعمة للمقاومة العراقية ،التي كان هو رمزها الصافي ،فقد كانت معرفته بي من خلال متابعة مشاركاتي فى برنامج الاتجاه المعاكس وصاحب امتيازه الدكتور فيصل القاسم ،وعقب نهاية أحد لقاءات البرنامج ،هاتفني قائلا كنت أنت العراقي ،ردا على قول محاوري العراقي المدافع عن الاحتلالين الأمريكي والإيراني:إنت مو عراقي .وهكذا كنت أتابع كل البيانات والتصريحات والاجتماعات التي يبث فيها الرجل صمود المقاوم ،عروبته وإسلامه ،والقدرة على التضحية والصبر والعقل المتفتح على العالم والأمة .ومنذ لحظة إبلاغي بانتقاله من عالم الحياة ،والحزن يسيطر على نفسي ،أن ظل العالم الافتراضي هو نمط لقاءاتي بالرجل .وكم أحزنني أن حاولت التواصل معه قبل الوفاة بأيام ولم يتركه المرض قادرا على التواصل معي عبر الهاتف.كان عنوانا لعقل عربي ونفس مليئة بالصمود والخير والقوة والمثابرة والتقدم لمواجهة ما يعجز الآخرون عن مجرد التفكير في مواجهته.وكنت أدركت منذ شاهدته على إحدى الفضائيات في ظهوره الأول ،أن الأمةأانجبت قامة قائد يملك كل مقومات عقل ونفس الفارس العربي الإسلامي الذي ارتقى إلى مقعد القيادة .ورأيته خلاصة قدرة أهل العراق الذين انتظروا طويلا حتى يعاد إنتاج تلك النسخة الإنسانية والعقائدية والفكرية والاستراتيجية والسياسية من الإنسان العربي المعاصر ،دون تكلف ولا تعقيد .غادرنا شيخ المجاهدين ،قائلا فى أيامه الأخيرة إنه يحمد الله أنه سيغادر الدنيا إلى لقاء ربه قبل أن يرى العراق مقسما .غادرنا بجسده تاركا لإخوانه مواصلة الطريق فهو من القلائل الذين أدركوا أهمية المؤسسية .لم يكن الرجل عنوانا فرديا على تفرده ،بل كان عنوانا لهيئة علماء المسلمين ولكتائب التخويل ولكتائب ثورة العشرين ،وللعراق المقاوم حضاريا لا سياسيا ولا عسكريا فقط ،وقد كان وجوده في نفسه عنوانا لإرادة العراق والأمة .غادرنا وقد أسس خطا لا تفريط فيه ولا غلو .غادرنا ولم ير النصر النهائي ،إذ لم يتحرر العراق كاملا وهو من كان يكرس كل جهده ودوره لبناء العراق بعد تحريره .يكفي الرجل أن شهد انكسار القوة الأكبر فى عدوانيتها على العالم ،شهد في حياته ما كان عنوانا له:هزيمة المحتل.ويكفيه أن يباهى أن خلَّف للعراق علماء وقادة وكوادر،تدرك كيف يكون للمقاومة تاريخ مشرف في علاقاتها بالمواطن والإنسان لا بالسياسة والعسكرية فقط .غادرنا الدكتور الشيخ المجاهد حارث الضارى .فيا من رحلت :ميراثك في الأرض المقاومة، عنوانا لإعادة بناء أمة لا الوطن فقط.ويا من حباكم الله بشرف الانتماء لدور الرجل وتاريخه ومؤسسته ووطنه وأمته :أنتم عنوان ثورة ومقاومة أمتكم ،من بغداد إلى القدس وبينهما دمشق وصنعاء .