02 أكتوبر 2025
تسجيلمن ضمن القضايا التي تحظى بنصيب وافر من متابعاتي النجاح الذي تحققه مبادرات أو برامج أو مشاريع يقف وراءها أفراد أو مجموعات أو مؤسسات، والمعيار في هذا النجاح هو الريادة والسبق والإبداع في قضايا تهم حياة الناس وتنمية المجتمعات، وسدّ ثغرة في جوانب يحتاجونها، وإحداث أثر وفرق في واقعهم ومستقبلهم عند تطبيقها والأخذ بها. ومثل هذه المبادرات والمشاريع قد لا تأخذ دائما الحيز المطلوب من الاهتمام الإعلامي والتسويق المجتمعي، فتبقى محصورة في نطاق ضيق، وهو ما قد يؤدي إلى عدم معرفة الآخرين بها، وبالتالي محدودية المستفيدين منها، أو المتفاعلين معها، والمتأسين بها. والأصل أن يكون الأمر خلاف ذلك، أي أن تحظى بالاهتمام والرعاية، وينال أصحابها الثناء والإشادة والتشجيع، تقديرا لصنيعهم، وأن تقدّم للجمهور، ويتم التعريف بقيمتها والجهود التي بذلت، والتحديات التي واجهت، حتى أبصرت النور، والمراحل التي قطعتها حتى تحقق ما تحقق من إنجاز، وكيفية وحجم الإفادة منها، وتسليط الضوء عليها إعلاميا وتسويقيا، حتى يمكن للأجيال الحالية والقادمة اقتفاء أثرها والتأسي بها، والبناء عليها، وإطلاق مهارات الإبداع والفكر الخلاّق لتطويرها، أو التشجيع على ابتكار مبادرات وبرامج أخرى لها نفس المقدار ـ أو أكثر ـ من التميز والتأثير. وسأعرض فيما يلي، وبطريقة مختصرة، مبادرتين استرعتا انتباهي، في الآونة الأخيرة، آملا أن يحتل الاهتمام بأمثالها حيزا أكبر ومساحة أوسع لدى المؤسسات والجهات الرسمية والأهلية، كأن تخصص لها صفحات في الجرائد والمجلات، وتصنّف لها كتب ومؤلفات، وتفرد لها برامج إذاعية وتلفزيونية، وتكوّن نواد وتجمعات لأصحابها ولمن يهتمون بمتابعتها. وهنا لابد من التنويه ببعض هذه الجهود الإعلامية ـ رغم محدوديتها ـ كبرنامج "زمام المبادرة " التلفزيوني في قناة الجزيرة، وتقارير موقع "قنا الطفل" التابع لوكالة الأنباء القطرية، على سبيل المثال لا الحصر. الأولى: صدور أول كتاب لأصغر مؤلفَة بالعربية في شهر فبراير من العام الحالي 2013، اسم الكاتبة آسية عارف، وعمرها 8 سنوات، وعنوان كتابها "العربية لغة آسية.. عشر جمل عن أربعين موضوعا"، وقد وصلتني نسخة منه بالبريد من أبيها الكاتب والصحفي عارف صدّيق. ما يزيد هذا الأمر غرابة والمبادرة قيمة هو أن صاحبته طفلة باكستانية، بدأ والدها تعليمها العربية، عندما كان عمرها سنة واحدة، تأثرا بنظرية "تعليم اللغة العربية الفصحى بالفطرة والممارسة"، التي يعود الفضل فيها للدكتور عبد الله الدنّان منذ التسعينيات من القرن الماضي، حيث لم يكن يحدثها أبوها منذ ذلك الحين إلا بالعربية الفصحى، حباً بها، لأنها لغة القرآن ولسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأهل الجنة، ولما بلغت الثالثة من عمرها بدأت تتكلم العربية بصورة جيدة وحفظت مئات الأحاديث النبوية الشريفة والأبيات من الشعر، وعندما بلغت سبع سنين صارت تقرض الشعر، وفضلاً عن كونها أصغر كاتبة بالعربية فإن "آسية عارف"، تعدّ أيضا أصغر طالبة جامعية في باكستان، منذ التحاقها بجامعة العلامة إقبال المفتوحة بإسلام آباد في دورات المحادثة العربية العام الماضي. النجاح الذي حققته هذه الطفلة الأعجمية بدعم من والدها يعد تقديرا لمكانة لغتنا العربية الشريفة، ويستحق منا التوقف والتأمل، بينما لا نعطي نحن العرب في بيوتنا ومدارسنا الجهد المطلوب في تعلم لغتنا الأم وإجادتها، بل يعاني أطفالنا وشبابنا غربة حقيقية عنها، لأسباب كثيرة، منها تقدير اللغات الأجنبية على حسابها، واعتمادها لغة للتدريس في المعاهد والجامعات، والاهتمام بإتقانها كتابة وقراءة وتحدثا كشرط أو ميزة للحصول على فرصة عمل. علماً بأننا لسنا ضد تعلم وإجادة لغة أجنبية، لكن بشرط ألا نهمل أو نضيّع أو نستهتر بلساننا العربي. الثانية: المؤسسة العربية للقيم المجتمعية ـ الكويت، حيث قدِّر لي أن التقي برئيس مجلس إدارتها الدكتور منصور المزيدي، الذي زار الدوحة مؤخرا، في إطار تقديم دورة عن تفعيل القيم وممارستها لـ 50 مدرسة بقطر، في إطار برنامجي جمعية قطر الخيرية القيمين " أنا سنافي وهبة ريح". هذه المؤسسة تكاد تكون الوحيدة التي تهتم بهذا الأمر عربيا، فيما أمتنا أحوج ما تكون إليه حالياً، على مستوى الأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، وقد حدثني د. المزيدي أن ما توصلت إليه هذه المؤسسة التي أسست عام 2007، كان حصيلة جهد بدأ منذ ثلاثين سنة، ولم تتبلور الفكرة الخاصة به في صورتها النهائية إلا من قبل خمس سنوات فقط. وقد احتاج الأمر من القائمين على المؤسسة إلى التواصل مع جهات عديدة في العالم، بما فيها الأمم المتحدة، والاطلاع على تجاربها ومشاريعها ومناهجها، حيث كان الموضوع أشبه بأطراف مشتتة هنا وهناك، ثم قاموا بتجميعها وتلوينها، وإضفاء ما يتناسب مع معتقداتنا وثقافتنا وعاداتنا عليها، لتستخرج المؤسسة في نهاية المطاف منهجا جديدا بهوية مختلفة عمّا سبقه منها، وهو ما كتب الله القبول له. وقد ركّزت المؤسسة على نقطة جوهرية هي بيت القصيد، وسر نجاحها وتميزها فيما أحسب، ألا وهي أن منهجها قابل للتشغيل (تشغيل القيم)، لأن الكثير من المناهج التي تدعي الوصل بالقيم، هي في واقع الحال نظرية، وغير قابلة للتشغيل، أي أن منهج المؤسسة قابل لبرمجة عقل ووجدان وسلوك المستهدفين، وجعل القيم سلوكا عمليا لديهم، وهذا الأمر ينطبق على الأفراد والمجموعات والمجتمعات. ترى هل ستجد هذه الصرخة آذانا صاغية في عالمنا العربي لرصد هذه المبادرات والمشاريع وتقديمها وإنزالها المكانة التي تليق بها؟!